رحماك ربي

 

عام مضى كان فيها رحيل أبي بمثابة صفعة لروحي تهاوى معها الجسد، يطاردني طيفه حيثما وليت وجهي، استرق السمع لرقة كلامه فأرتطم بجدار الحزن وأجرع كأس الهم وفي القلب نار تضطرم. ذبل القلم وجف المداد وجراح أبي ليس تلتئم. عجباً كيف تمضي الحياة، تتساقط فيها الأيام والسنون تترى، تمر كأنها نسمات الريح تلامس الوجنات الرطبة، كأنها ومضات من حلم يأتي قصراً مع بزوغ الشمس، حلم يتمايل بين الخيال والحقيقة، يجلب معه قطرات ندية من اعماق الطفولة إذ ترتع في بيادر القمح والعدس والشعير، ترتشف الأمل في حكمة الكبار، تترنم على وقع الدبكة والشبابة واهازيج النساء في الأعراس، طفولة امتزجت في براءة الصحراء ريثما تدفع الغبار الخماسيني والزوابع، ترجو العلا والمجد رغم وحشة بيوت الطين، رغم برودة الشتاء وعتمة الليل، مع أنات الجوع و قرصات الجوف الفارغ. إن هي مجرد إلتماعة يتداخل فيها الوعي بالصدفة، يمتزج فيها الواقع بالصورة والظل، وبرقة طيف تتمثل في قوس قزح، جميلة يغمرها الزهو لكنها وهمية خادعة.

الحياة كتاب نطوي صفحاته على عجل، دون أن نفهم مكنونها أو ندرك مغزاها، كتاب فصوله أقصر من السنين، وكلماته تزاحم الأيام وتنثرها على جبهه الأحرف والفواصل والنقاط، مثلما شخوصها وأبطالها يتنقلون في زوايا الرواية، يجوبون طرقات القصة إذ يتبادلون الأدوار، يمضون في دروب شتى، جلهم عابرون وبقية يمكثون في الوجدان وثنايا العمر والفؤاد.

هكذا هي الحياة، دورة لا متناهية، تبدأ بهدوء وتؤدة، مع اطلالة فجر الولادة، وتنتهي كسلى متثاقلة، تشكو السأم والإنتظار. دوماً أستذكر هبة الله الرائعة، النبع الصافي الذي يطفح كرماً ومحبة وحكمةً، ذاك القلب الذي لا ينطفيء رغم فناء الجسد واستراحة الروح، قلب أبي الذي افتقد. غدوت اليوم يا أبتي هائماً إذ طاح السرور من النفس وغاب، وبهتت الوان الحروف في المداد، شوّهتها يد الحزن والفراق، فتراني اليوم اردد واستذكر أبيات أبي ماضي:

طوى بعض نفسي إذ طواك الثّرى عني وذا بعضها الثاني يفيض به جفني

فرحماك أبي، رحماك أمي، رحمى كل أب وأم كوى الفؤاد فراقه.

د.عبدالله الزعبي.