الرئيسية / كتاب الموقع / كانوا وما يزالون….

كانوا وما يزالون….

د. عبدالله الزعبي.

الأردن هوى عمرٍ وقصيدة عشق ولحن أرب، في حجم بعض الورد، شوكته ردت إلى الشرق الصـبا، ذو حُسن ومِرةٍ إذ استوى في أفق الخلد، تحيط أوديته الأربع، من عربة إلى رم، ومن السرحان إلى اليرموك، مثلما حراس الثغور الأبدية، تسقي المغطس الخالد حيث عمد المسيح. من عصور الحجر الأول إلى العموريين، وعين غزال عندما كانت أول بلدة استوطنها الإنسان، إلى الأدوميين في بصيرا، والمؤابيين في ذيبان وسفوح شيحان، ميشع ومسلته دليلاً، والحشبونيين في حسبان، إلى العمونيين في ربوتهم عمان وملكهم ناحاش. وطن حينذاك كان مقصداً وطريقاً للأنبياء، طمعاً للملوك، نبوخذ نصر وسيروس والاسكندر الأكبر. وطن كان يأوي مدناً في إتحاد العشر، فيلادلفيا وجراسيا وجدارا وبيلا وأرابيلا، إلى الأنباط في الرقيم الوردية، حيث عبيدة الأول والحارث كأنهما صخرة ينساب منها نهر إلهي، ثم جاءت روما، وجفنة بن عمرو أول ملوك الغساسنة الذين سادوا البلاد ساسةً لستمائة عام، وتلك طريق تراجان، من بُحيرة والكنائس والفسيفسائيات في مادبا وأم الرصاص، رغم الطاعون وجريمة الساساني شهرباراز إذ قضى على العباد والسكان، حتى أتى الفتح المبين إذ يحتضن ثرى مؤتة أجساد الثلاث الكرام، جعفر وزيد وإبن رواحة، وحيث الغور الغائر في عمق الأرض السحيق والزمان، إذ يرقد ابو عبيدة وإبن حسنة ومعاذ وضرار، ثم اذرح التحكيم، ثم بني أمية وقصور الصيد والقوافل، عمرة والمشتى، الحلابات والحرانة، ثم حميمة بني العباس، ثم السلاجقة وإسماعيلية الفاطميين، إلى آل أيوب والمماليك وآل ارطغرل وعثمان. مئات السنين تداولتها الأيام تترى على البلاد والأناس، إذ لا يدوم سوى سلطان العدل وملكوت القوة والإحسان.
وطن اشفق مذ ذاك الزمان على التاريخ والمكان، افترش الصحراء يتحدى قسوة العيش وفحيح العطش، يحفر شروق الشمس، من وراء التلال والرمال، في الذاكرة عشقاً يحفظه أبدياً في اعماق الذات، لوحة شكلت هويته وموروثه وشخصيته، منذ احتضن الأرمني الفار من الموت والمجاعة والقوقازي الهارب من الإبادة، من بني معروف الموحدين والشيشان في الأزرقين، شماله وجنوبه، إلى متاولة بنت جبيل في الرمثا، إلى البهائية الهاربة من اضطهاد القاجارية في إيران، إلى تركمان مرج بن عامر، إلى فلسطين والشام والعراق، ثم الحجاز، تنوع مدهش في الذات والموضوع، حين استقبلت العشائر أمير البلاد، وحين أصبح اللبناني الموحد رشيد طليع أول رئيس وزراء في البلاد، تبعه السوريون أرسلان والركابي وأبو الهدى، ثم السراج الحجازي، وهاشم وأبو الهدى الآخر من فلسطين، وهكذا دواليك على مدى الأمارة. ذاك كان وأبناء العشائر يعقدون مؤتمراتهم في المقاهي وصالات الفنادق وأسطح المنازل، حباً في فلسطين، شجباً للصهيونية والاستعمار، أملاً في الحرية والاستقلال، وما زالوا إلى اليوم يفعلون، فكان الرابع شهيداً، مثلما كل الحواضر، من أيلة إلى الطيبة، تحضر ورقي، أنفة وكبرياء، قوة وحكمة، كما كانوا دوماً أوفياء، لوطنهم، لعروبتهم، لقضيتهم، لتاريخهم المطموس في زوايا المناهج.
اليوم تقف الذات مع نفسها، ترسل باقة ود وعرفان إلى الآباء والأجداد، إذ كان الصنيع جميلاً، فهم من اكرم الضيف وآوى الملهوف، اطعم الجائع وأقتسم اللقمة مع الجوع، شارك اخوته الأرض والوطن والمصير،كم كانوا دوماً انصاراً للمهاجرين، عرباً ومسلمين وكل الآخرين. كانوا وما يزالون.