الرئيسية / كتاب الموقع / النخب لا تموت مبكراً

النخب لا تموت مبكراً

د. عبدالله الزعبي.

يختزل الفيلسوف الامريكي نعوم تشومسكي مسافات الجدل وأنات النقاش حول مفهوم المثقف بإعتباره “من يحمل الحقيقة في وجه القوة”، ذاك أن السياسة تصبح ضرباً مهلكاً من الجنون عندما تنفصل عن العلم والفلسفة، وأن ذاك الحق، حسب جبران، يحتاج إلى رجلين: رجل ينطق به ورجل يفهمه، فهماً عسى أن يحيله إلى قوة تحميه. بيد أن الشاعر والأديب السوري محمد الماغوط علق ساخراً عن إنتفاء هكذا حال حينما أكد أن “الدولة لا تسأل المواطن عما يفعله من وراء ظهرها، إذا لم يسألها ماذا تفعل من وراء ظهره”.

اليوم تتعمق جدلية العلاقة بين الثقافي والسياسي في خضم حالة من الفوضى والإضطراب وخلط عجيب في الثوابت والمفاهيم والأبجديات تنزلق معها الأمة بأكملها في أودية التخلف السحيقة وهي تحتفل بالنصر بينما يسودها الجهل، تنتظر فارساً ينقضها، سراة تتولى أمرها ونخب تنير دربها.
إن مجد ومنعة الأمم، حسب قائد الإصلاح الديني مارتن لوثر، لا تتوقف على الثراء والسلاح والعمران بقدر ما تعتمد على نوعية وعدد المثقّفين من أبنائها وعلى رجال التربية والعلم والأخلاق فيها، فهنا تكمن السعادة والقوة والمقدرات الحقّة. النخب الأصيلة إذن هي أولئك الرجال والنساء الذين يضحوا بحياتهم من اجل خير الأنسان والأمصار، هم الصفوة والطليعة التي تمتلك مؤهلات معرفية وفكرية وأخلاقية، ولها من الخبرة والمهارة والمؤهلات لادارة شؤون ومفاصل الدولة وقيادة المجتمع وتوجيه دفة الوطن في الحاضر والمستقبل.
يعاني المجتمع الأردني اليوم من أزمة عميقة وخطيرة تتمثل في الهرج السياسي والمرج الاجتماعي، تتجلى في صخب الفكر وضوضاء الثقافة، تتجسد في تلاشي خطوط التماس بين الجد واللعب وإختفاء حدود اليقين بين الحقيقي والافتراضي. أزمة استدل عليها الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي أذ يقول:
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
تُلفى الأمورُ بأَهلِ الرُّشدِ ما صَلَحَت
فَإِن تَوَلَّوا فَبالأَشرارِ تَنقــــادُ
إِذا تَوَلّى سَراةُ القومِ أَمــــــــــرَهُمُ نَما عَلى ذاك أَمرُ القومِ فازدادوا
الأزمة العميقة التي يعاني منها المجتمع بحق هي أزمة نخبوية ثقافية بإمتياز تعبر عن نفسها بضحالة فكرية ومعرفية عند النخب السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وتحديداً النخب الأكاديمية التي لا تكاد تتمايز عن عموم الناس، وحتى طلبتها، سوى بتحصيل علمي يقاس بالسنين لا بالفكر والمعرفة. وعوداً إلى الماغوط الذي دوماً يتحفنا بسخريته عندما يقول: إن النخبة لا تموت مبكراً، الشعوب هي التي تموت.