الرئيسية / كتاب الموقع / د. أحمد الزعبي.. دم ملوّث

د. أحمد الزعبي.. دم ملوّث

قصة قصيرة

دم ملوّث

وأخيراً فتحها الله علي، ويسر لي رزقاً شريفا، فقررت التوقف عن الإجرام الذي عصف بحياتي لسنوات طويلة ومريرة.

فقد جاءني مخرج سينمائي شهير، وطلب مني مساعدته في دهاليز الجريمة وخططها وأنواعها.. إلى غير ذلك، لأنه يعدّ لفيلم جديد عن عالم الإجرام الذي تفشّى في المجتمعات المعاصرة، وقال إن رسالة الفيلم تقبيح عالم الجريمة ونهايته المفجعة أملاً في أن يرتدع الناس ليعودوا إلى جادة الصواب والاستقرار.

وحين عرض المخرج عليّ أجراً مغرياً قبلت عرضه ووجدتها فرصة للارتداع والتوبة عمّا سلف فلطالما كنت أتمنى أن أعيش يوماً واحداً أو لحظة واحدة دون خوف أو ذعر من كمين هنا أو رصاصة من هناك أو انفجار مفاجئ…. قلت في نفسي هذه بداية طيبة وجلست مع المخرج مرات عديدة أعرض خبراتي ونجاحاتي وخيباتي في هذا العالم الدموي المظلم، وكان يكتب كل شيء.. ثم يراجعه.. ثم يناقشني إلى أن جاء فيلمه واقعياً وقوياً وصادماً، ولاقى إقبالاً جماهيرياً كبيراً، الأمر الذي دفع كثيراً من الكتاب والمنتجين والمخرجين السينمائيين إلى التهافت علي لتقديم المشورة والخبرة في عالم الجريمة إذا كان موضوع الفيلم يتعرض لهاذ العالم المليء بالأسرار والمغامرات جزئياً أو كلياً.

والحقيقة أني أصبحت ميسور الحال.. ثرياً ومعروفاً، وحاولت في أول الأمر التكفير عن ذنوبي السابقة أو (جرائمي) السابقة، بوسائل شتى، وبعد الشهرة بدأت أنظار الناس تتحول عن الماضي الأسود إلى الحاضر المتلوّن، وقلت في نفسي: الناس ينسون كثيراً، وأغرقتهم أقوالاً عن ندمي وتوبتي، والمرء خطاء.. والرجوع إلى الحق.. وكل الكلمات التي تصب في هذا الاتجاه… ونسي الناس… صحيح لا أعلم سرائرهم ودواخلهم الحقيقية، لكني أرى أفعالهم وكلامهم وسلوكهم الذي يرضيني ويقدرني، وقلت العالم بالسرائر هو الله فقط.

اليوم تنهال عليّ العروض من كل صوب وحدب، ولا أستطيع الوفاء بها جميعاً، ثم أشار عليّ صديق قديم من أيام السجن لم لا أكتب أنا القصة.. ثم أنتجها ثم أخرجها أو أوعز للمخرجين المعروفين بتنفيذ ذلك…. وهذا يعني أن الكسب سيكون أضعاف ما أحصل عليه الآن. أعجبتني الفكرة وانفتحت أمامي أحلام كثيرة بالثراء والجاه والقوة والمجد والشهرة التي تعمي العيون وتجر النفوس إلى حيث تريد.. كل ينظر إلى الأمام.. لا أحد ينظر إلى الخلف.. وتناقلت المحطات الفضائية مقابلاتي وأقوالي عن أننا أبناء اليوم وآباء المستقبل.. فإلى الأمام .. إلى الأمام.. وسار الناس إلى الأمام.. وغدوت الرائد الذي لا يكذب أهله حيناً، والرائد الذي يكذب أهله أحياناً.. ورحت أقصي أي مخرج يعارضني… وأحرق أي منتج ينافسني …وأقمع أي كاتب يلفت الأنظار إليه.. أكثر مني….فحين أمنت العقاب…أسأت كلّ الآداب…وفتحت باب الجنون على مصراعيه…

وحين طارت شهرتي خارج البلاد.. وفزت بجوائز كثيرة، جاءتني عروض وعقود وطلبات من كل الدنيا…. ورحت أفصّل لكلّ قميصه، وألبس كلّ قدم حذاءها.. وكلّ رأس قبعتها.. أبيع للسكارى الخمر.. وللمصلين الماء الطهور.. وللفقراء الفضيلة.. وللشهداء الجنة… وللزناة التوبة… وأخيراً أبيع لنفسي ولأصدقائي المجرمين أو السجناء ….أو الأحبة القراء هذه الشهادة…..