الرئيسية / كتاب الموقع / الإقتصاد ما بعد الوباء…من الكورونا إلى البتكوين…ما العمل؟

الإقتصاد ما بعد الوباء…من الكورونا إلى البتكوين…ما العمل؟

الإقتصاد ما بعد الوباء…من الكورونا إلى البتكوين…ما العمل؟
عقد ممثلو 44 دولة في العالم مؤتمراً، في منطقة غابات بريتون الواقعة في ولاية نيوهامبشر الأمريكية في تموز/يوليو 1944، من أجل وضع خطة تؤمن استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع التجارة بعد الحرب العالمية الثانية. خرج المؤتمرون بقرار إنشاء صندوق النقد الدولي، بإدارة أمريكيا، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير بقيادة أوروبا، وكذلك تثبيت ثمن أونصة الذهب وتحديدها بسعر 35 دولاراً، وبذلك احكمت الولايات المتحدة قبضتها المالية على العالم وأصبح الدولار العملة الصعبة الدولية السائدة، بعد أن نجحت بسحب الذهب من التعامل واستبداله بالأوراق النقدية. عمقت أمريكيا تلك السيطرة بعد أن أطلقت مشروع مارشال الاقتصادي عام 1947 لإعادة تعمير أوروبا، وبلغ حجم الإنفاق عليه حوالي 13 مليار دولار. كان الهدف الأساسي للمشروع كبح جماح الشيوعية ووقف تمدد نفوذ الإتحاذ السوفييتي حينئذ، ونتج عنه إعادة إعمار دول أوروبا الغربية وتشغيل المصانع والحد من انتشار الفقر والبطالة وإنعاش الاقتصاد. أدت حرب فيتنام إلى تراجع إحتياط الذهب الأمريكي فقامت بضخ الدولار في الأسواق العالمية، حتى قرر الرئيس ريتشارد نيكسون، عام 1971، وقف مقايضة الدولار بالذهب وتعويم سعر صرفه على أساس العرض والطلب، وبذلك أصبح العالم تحت رحمه اللعبة الأمريكية.
خرجت الصين، في بدايات الألفية، من عزلة دامت سبعين عاماً، وانضمت إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، بعد أن أجرت سلسلة من الإصلاحات الصناعية والزراعية، فتجاوز دخلها القومي بريطانيا، وفي عام 2010 تجاوز اليابان، وبذلك أصبحت ثاني قوة إقتصادية بعد امريكيا، وتسهم بـحوالي 35% من النمو الاقتصادي العالمي. كما أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق، تقوم على أنقاض طريق الحرير التاريخي، وتهدف إلى ربط نصف سكان الأرض ودمج خمس الناتج القومي الاجمالي العالمي عبر تأسيس عرى تجارية واستثمارية جديدة وتمويل بنى تحتية حول العالم هي الأكبر في تاريخ البشرية. كما عملت الصين منذ عام 2014 على إطلاق عملة رقمية خاصة على غرار البتكوين، أقرتها الحكومة والبرلمان في أواخر تشرين الثاني/اكتوبر عام 2019 عبر قانون التشفير الذي يهدف إلى ضمان أمن المعلومات وتسهيل تبادل العملة عبر منصات الدفع الرئيسية من مثل وي شات وعلي باي، ودخلت حيز التنفيذ في بداية العام الحالي.
الحرب التجارية والمالية المستعرة بين امريكيا والصين تقودنا إلى حكاية تكنولوجيا البلوكشين والعملات الرقمية المشفرة. البتكوين عملة إلكترونية بحتة تتداول عبر الإنترنت دونما وجود مادي، وتهدف إلى بناء نظام مالي جديد، وكانت نشأت على وقع الأزمة المالية العالمية عام 2008. تتميز العملة باللامركزية؛ إذ لا يدعمها بنك أو هيئة مالية تنظيمية مركزية، ويتم التعامل بها بين الأشخاص مباشرة دون وسيط، وتطرح أو تستحدث على موقعها الإلكتروني الخاص على سبيل مكافأة عبر عملية تعرف باسم التعدين أو التنقيب أو يشتريها الزبون مباشرة. أما البلوكشين فهي التكنولوجيا التي طورت برمجياتها من أجل دعم عملية التعامل بعملة البتكوين وتخزين المعلومات في قاعدة بيانات تتسم بالأمان، وتعتبر بمثابة دفتر رقمي يشبه كشف الحساب البنكي تسجل فيه حركات المعاملات كافة لجميع الزبائن مهما بلغ عددهم، ويصعب تزويره بسبب طبيعة تصميمه التي تعتمد على حفظ المعلومات في شكل كتل تحتوي على ختم زمني ودمغة تربط إلى الكتلة السابقة واللاحقة. وتتميز تكنولوجيا البلوكشين بالشفافية التي تسمح للمستخدمين كافة بالاطلاع على سجل البيانات والحركات والتعرف عليها كآلية للتدقيق الذاتي للقيمة الرقمية من أجل الوصول إلى التوافق بشأنها وإجازتها والموافقة عليها أثناء عملية التحديث التي تجري كل عشر دقائق، وبالتالي يستحيال تزوير أي عملية أو اختراقها. تعود أصول البلوكشين إلى شخص مجهول حمل اسماً مستعاراً هو “ساتوشي ناكاموتو”؛ الذي نشر مقالاً عبر الإنترنت تحت عنوان “بالبتكوين: نظام نقدي إلكتروني-نظير إلى نظير” عام 2008 حدد فيه كيفية إنشاء عملة رقمية آمنة وشفافة دون بنك أو هيئة مركزية. أطلق ساتوشي ناكاموتو البتكوين في يناير 2009، وسلم صيانة برنامج البتكوين واختفى تاركاً 50 عملة بتكوين في محفظةإلكترونية لا تزال موجودة حتى يومنا هذا. بدأت الدول بالسماح بتداول العملات المشفرة وتنافست الشركات على إصدارها حتى بلغت قيمة البتكوين الواحد 20 ألف دولار في بعض الأحيان، وتطورت سوق بلوكشين ببطء حتى بلغ حجم التعامل فيها 706 مليون دولار عام 2017، ويتوقع أن يصل إلى 60 مليار دولار عام 2024.
اشعل الفيروس الصغير شرارة سلسلة تحولات كبرى يعيش العالم أولى آثارها، لكنها البداية فقط، ففي غضون عام وربما أقل، سنشهد عالماً جديداً لم نكن نتصوره أو نستعد له قبل بضع أسابيع، رغم وجود مؤشرات كثيرة على ذلك. كما سيشهد الأردن، الذي تجاوز الصدمة الأولى للوباء بإقتدار، مجموعة من التحديات الكبري التي تستدعي تظافر الجهود لتجاوزها بسلام، وأخطرها الوضع الإقتصادي. إن الموازنة، التي أقرها البرلمان قبل نحو شهرين، أصبحت الآن حبراً على ورق بعد أن خسرت جزءً كبيراً من دخلها المتوقع بسبب توقف عجلة الإقتصاد لعدة أسابيع، وربما أشهراً، كما أن النفقات على مكافحة الوباء قد تصل مبالغ صادمة. المشكلة الأخرى تكمن في عدم استعداد الدول العربية والأجنبية أو الهيئات الدولية لتقديم المساعدات للأردن لإنشغالها بنفسها. القطاع الخاص سيواجه كذلك عقبات عميقة، سواء الشركات الكبرى التي ستمنى بخسائر فادحة، أو الأعمال المتوسطة والصغيرة وحتى العمالة اليومية. كل ذلك سيضع ضغطاً هائلاً على قيمة الدينار، الذي ارتبط بسلة من العملات، أهمها الدولار، منذ عام 1989، خصوصاً إذا لجأت التجارة إلى البتكوين في تعاملها. تلك إذاً دعوة للحكومة الأردنية، مرة أخرى، لتشكيل فريق من خبراء المال والإقتصاد والتكنولوجيا لدراسة كافة الإحتمالات الممكنة ووضع السناريوهات المناسبة لمواجهة تحديات ما بعد الكورونا، فالبلاد تزخر بالكفاءات والإمكانات، ولنتذكر جميعاً أنه عندما تتصارع الفيلة يموت العشب.
د. عبدالله الزعبي.