الرئيسية / كتاب الموقع / على شرفة المنفى.. د. عبدالله الزعبي

على شرفة المنفى.. د. عبدالله الزعبي

على شرفة المنفى

أطل البارحة من شرفة المنفى على تجربته الأولى مع السجن في رحاب الخضوع، وعمر تدحرج مسرعاً على مزالق القهر، سجن بلا ملامح وأسوار أو زنزانة تتوق لأوقات الزيارة والعناق، فزمن الكورونا أتى دون وجه يرتشف معالم الساعة أو يتذوق الوقت. ذهل في ذات السجن من ضجيج الصمت الذي خيم على مربض الأيام، فهي تغدو وتروح تترى دونما تثاؤب وحساب، كما النوم أضحى في قبضة اللهو دون أحلام، بلا صباح يتداعى نشوةً على نكهة القهوة، أو أمسيات تداعب جشاء الفجر في وجه القمر. أيام الحجر أضحت اليوم صدى صفحات تترنح بين الإبهام والسبابة، تقلبها على عجل خوفاً من الضجر أو خشية من التجاعيد في جبين المساء، قد تعوَد أن يسابق الفراغ كل صباح؛ عند الظهيرة أو غدوة وأصيلاً، تارة يتخطاه وغالباً ما يقف منصتاً لصهيل نبضه وزمجرة عروقه كأنما تتمنع فيها الدماء، كأنما تأبى القفص وظلمة السجان. في الأمس، تساقط على مخياله، في لحظة غفلة، ضياء شفيف أحرج نشوة البكاء في مآقيه، تأمل على نوره كلمةً حسناء تتبختر بين وادي الحجر وسرداب الحظر، كلمة تبلد فيها الإحساس وتلبد بريقها، أصبحت خواءً دون صدى في حنايا قلب اختنق وأنزوى خلف جدران السنين. فك البارحة قيد الكلمة وأطلق المعصمين، أنشد لها لحن الوداع على رجفة الوتر وزحمة الدمع حول حوض البلاء.

خال بالأمس النقاب تمزق وتناثر بقايا فناء في الفناء، خال الزمان تجمد في خاصرة السكون وإستوى الليل مع النهار، وإذ برغبة عارمة تداهمه وتعود به إلى غمار ماضي كاد يطويه النسيان، فما عاد السير صوب الغد الممراح يعنيه وما عاد شهد الرجاء يرويه. ها هو الآن على شرفة المنفى يجذف في بحر الذكرى ويمسح الأحزان، يسترق السمع إلى لثمات أمه حين أرضعته لبان الحب وروت سنه، حين غنت له الدعاء وتناغت، ها هو يصغي إلى ضلوع أبيه إذ تنتحب والصدر يلتهب، ها هو اليوم على شرفة المنفى يتكور في فراشه وينتظر نسمات الضحى في نيسان، يتوق إلى ضحكة العشب ومطر الربيع‬ حين يطوق زهو الزرقاء، يمني النفس بأن يلامس الصبا ثانية ويحلق في البيادر والمروج، يداعب الريح ويشتم عبق أفق بلون البرتقال، يمحو الندم من سجل عمر مضى مثلما طيف كرى، ويطفيء الخطايا التي تراكمت في ميزان الإثم والخسران. ويحك كورونا لما أوقفت الساعة وعطلت الأيام، ويحك لما دفعت بالذكرى إلى شرفة المنفى وأعتاب الصبا، لما أطلقت من مربطه عنان الفكر والأحزان، فالقلب قد أضحى ظمأً يضج بالفوضى ويرتجي الغفران.

د. عبدالله الزعبي.

تعليق واحد

  1. أعرف أن بينك وبين الشعر معادلات ماكسويل، وبينك وبين الأدب نظرية “شانون”، لكن يا ترى بأي نبض تكتب، إذ تضج سطورك بإيقاعات فضاء يهمس بخبايا مرايا عذراوات في سهوب حوران ذات مطر يرشق الشباك الشمالي، فتنتشي النجود خلفه ربيعاً عرمرماً.
    أتشظى بين سطورك فيلملمني تكاملاً ثلاثياً، وغبار طبشورتك، ورشاقة العبارة، وغزارة المعرفة ورقيّ الوعي وشمولية الثقافة.

    فليعذرني كل من يمر على هذه السطور؛
    إنتبهوا لهذا الرجل القراح، فهو بإختصار، مفكر عربي من طراز رفيع!