الرئيسية / كتاب الموقع / عذراً أيها المطر

عذراً أيها المطر

عذراً أيها المطر

تستيقظ الطفولة صباح الجمعة على دفء الشتاء والحلم، تطارد النعاس في الجفون الناعمة المسدلة، تدفع النوم عن رقة الأجساد المتبعة من طول الدرس ونهار الأسبوع، تتهادي تثاؤبات الرقة والحسن من الثغر الغض والمحيا، تفيح معها نسمات الحياة إذ تمنحها معنىً وعنواناً. ينساب بها الميلاد والفجر، وتجري جدولاً رقراقاً تتفتح به ازهار الكون والنور. أرى ذاك الملاك صباح الجمعة يحمل إسماً بوزن العمر وسمو الروح، ربما ريان…طلال أو راية أو لجين. ترقب براءة عيون السهاد حبات المطر على نافذة الكسل والراحة، تهفو إلى دفء الأمومة المقدسة ورياض حنوها وبستان إيثارها، أمومة أمست في البارحة ثكلى تغمرها لوعة الفقد والقهر والرحيل.

أقلعي يا سماء…اقلعي، ابتلعي مطرك النزق إذ عاد بالأمس يغتال الطفولة مثلما وحش مجنون، تساقط البارحة كأنما جارح هوى من بطن الغيوم السوداء، يفترس الرقة والطيب ويغرس مخالب الشؤم، تشوه قسمات وجه ذاك الملاك العذب، يغتصب البرأءة والحسن وصباح الجمعة. أنحبس أيها المطر الغاضب، أيا سقيا مزن العقوق والجفاء، جلبت الجنون والكمد والسأم، حرمت العمر طراوته وسلبت الفرح في وطن يبحث عن خلاصه ونفسه، عن البسمة والبلسم ولمسة الألفة وموسم الحصاد. استحلت بالأمس أيها المطر دمعاً تذرفه مقل الأمهات الثكلى حسرةً وندامةً، ألبست الطفولة ثوب الحداد على عجل وفطرت القلوب، غدوت خيبة للأرض العطشى والشجر، أتيت بالموت وأنتهيت بالميت تعانق ملوحته الزعاق الأبدية، تطرب على أنات الزعاق والنواح ورعشة البكاء الشجية.

إرحل أيها المطر…إرحل، وخذ عاصفتك، أشرب غيومك، أرخي قوسك النشاب وأغمد نصال سيفك الغائر في أحشاء الصغر، أقفل أيها المطر العابث ستار سماءك وغضبك، فالطفولة في بلادي مثقلة متعبة حزينة، إذ كانت تنتظر قطرات الندى على نوافذ الجمعة وأجنة الزهر ومبسم الريحان، طفولة بلادي كانت ضبطت ساعة العطلة والدعة وإفطار العائلة على نغمات خريرك، تعودت الحان زخاتك الرقيقة إذ تنثر الغناء وتنظم القصيد وصدى الفرح وإرتعاشة الخريف. إليك أيها المطر بالثرى والعشب والكروم، إروي عطشها وسد رمقها، أليك بالورود والشجر، بالأنعام والحجر، إغسل أدرانها وكفر ذنوبها، إليك أيها الشجر بالبحر والنهر والجليد، إملأ بطونها، لكن عذراً أيها النزق أن تختطف ثانيةً صباح الجمعة وبراءة الطفولة، فبلادي فيها من الحزن ما يكفيها.

د. عبدالله الزعبي.

2 تعليقات

  1. حمدلله هيك الله كاتب دكتور قدر الله وماشاء فعل

  2. لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم هذا المطر من الله سبحانه وتعالى ما بصير هذا الكلام دكتور عبدالله