الرئيسية / كتاب الموقع / الصين ومعضلة الدولار

الصين ومعضلة الدولار

ناصر التميمي

النجاحات الكبيرة التي حققها الاقتصاد الصيني خلال عقود قليلة واضحة للعيان ولا تحتاج إلى الكثير من البراهين لإثباتها؛ فالناتج المحلي الإجمالي الصيني الاسمي يأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، ومن المرجح جدًا أن يصبح الأول خلال العقد الحالي، والصين تعد أيضًا أكبر اقتصاد في العالم منذ العام 2016 عند قياسه من خلال تعادل القوة الشرائية.

والصين أكبر اقتصاد صناعي ومصدر للسلع في العالم، والسوق الاستهلاكية الأسرع نموًا في العالم، وثاني أكبر مستورد للسلع.

والصين أكبر مستهلك في العالم للعديد من السلع، وأكبر دولة تجارية في العالم، وتمتلك 4 من المراكز المالية العشرة الأولى الأكثر قدرة على المنافسة في العالم، و 3 من أكبر  10 بورصات في العالم.

ورغم هذه القوة الاقتصادية الهائلة التي تملكها دولة مثل الصين، إلا أن عملتها الوطنية اليوان ”الرنمينبي“ لا تمثل سوى أقل 3% احتياطيات النقد الأجنبي العالمية الرسمية (احتياطي الفوركس)، وأقل من 2% من نظام المدفوعات العالمي.

في حين أن حصة الدولار تمثل أكثر من 60% من إصدارات الديون الخارجية، ونحو 59% من احتياطيات النقد الأجنبي، وحوالي 40% من المدفوعات العالمية، وفقًا لآخر بيانات صندوق النقد الدولي، جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك ”سويفت“.

صحيح أن هيمنة الدولار على جميع هذه الأسواق والأدوات قد بدأت تتراجع تدريجيًا خلال السنوات الأخيرة، إلا أنه لا توجد حتى الآن عملة أخرى يمكنها المنافسة.

ومن المؤكد أن اليوان الصيني ليس بديلًا قابلًا للتطبيق في الوقت الحالي، رغم أن العديد من الاتجاهات الجيوسياسية ومؤشرات الاقتصاد الكلي تدعم تعزيز صعوده في المدى الطويل.

لكن منافسة اليوان للدولار لا تشغل بال القيادية الصينية في الوقت الحالي، لأنها تعلم أنها عملية طويلة الأجل، وتحتاج لإصلاحات كبيرة في الداخل الصيني، فضلًا عن تغيير أنماط السياسات التجارية والمالية للصين في التعامل مع العالم الخارجي.

كما أن قوة الدولار الحالية وضعف اليوان والتقلبات في أسواق الصرف العالمية لا تولد قلقًا عميقًا في بكين، لأن هذه الأمور حدثت في السابق، ولم تغير كثيرًا في المسار الاقتصادي للصين.

لكن ما يُقلق بكين هو الوضع السياسي داخل الولايات المتحدة نفسها، حيث يتصاعد العداء تجاه الصين مع مرور الوقت من قبل الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) والرأي العام الأمريكية، وقد يؤدي بالنهاية إلى زيادة الضغوط لاندلاع حرب تجارية أكبر، أو تطبيق عقوبات واسعة النطاق على الشركات الصينية..

لا شك أن المسؤولين في بكين تابعوا عن كثب العقوبات الغربية غير المسبوقة ضد روسيا، وبدأوا يتصورون سيناريوهات كارثية في حال اندلاع مواجهة بسبب تايوان.

صحيح أن الصين ليست روسيا، وتطبيق العقوبات ضدها ليس أمرًا بسيطًا، حيث ستكون له تداعيات عالمية كارثية، لكن بكين من الواضح أنها لا تريد أن تترك الأمور للصدف.

في هذا السياق، يمكن رصد تحركات الصين في عدة اتجاهات لتحصين البلاد ضد أي عقوبات أمريكية أو غربية في المستقبل.

ومن الواضح أن بكين ومعها دول كثيرة بدأت تزيد دعمها لتوقيع اتفاقيات ثنائية، وإنشاء تكتلات تجارية إقليمية، حيث يمكنها التعامل تجاريًا مع الشركاء التجاريين بعيدًا عن الدولار الأمريكي.

ويمكن الإشارة هنا إلى اتحاد المقاصة الآسيوي الذي يقوم بالفعل بتسوية المدفوعات داخل المنطقة دون الاعتماد على الدولار أو اليورو، وكلما أصبحت هذه الشراكات أقوى، قلل ذلك الانكشاف على العقوبات الغربية.

في المقابل، يمكن أن يساعد اليوان الرقمي، في تحصين النظام المالي الصيني ضد العقوبات الأمريكية، في أن يجعل من الأسهل والأرخص للأجانب إجراء مدفوعات عبر الحدود.

ويبلغ عدد مستخدمي اليوان الإلكتروني الصيني حاليًا 260 مليون مستخدم، وفي دول أخرى، تُظهر أنظمة مدفوعات تنمو بشكل ملحوظ مثل نظام ”مير“ في روسيا، و“يو بي آي“ في الهند، ونظام المدفوعات البرازيلي ”بيكس“، التي يستخدمها مئات الملايين من الأشخاص.

وشبكات المدفوعات هذه يمكنها مع مرور الوقت تسهيل المعاملات عبر الحدود كبدائل للنظام القائم على الدولار.

وفي هذا الإطار، يطمح المسؤولون في الصين لبناء نظام مدفوعات يسهل على شركائها التجاريين استخدامه ويصعب على أمريكا حظره، وأن يجعل مثل هذا النظام اليوان أكثر نفوذًا في الخارج، دون المساس بضوابط رأس المال الصينية في الداخل على الأقل في المدى القصير.

مهمة بكين لن تكون سهلة أو خالية من التحديات، فقد نشر صندوق النقد الدولي مؤخرًا ورقة تحليلية بعنوان ”التآكل الخفي لهيمنة الدولار.. عوامل التنويع النشطة وصعود عملات الاحتياطيات غير التقليدية“ خلصت إلى أن عملات مثل اليوان الصيني والروبل وحتى اليورو لا يمكن لوحدها أو مجتمعة أن تكون بديلًا للدولار على الأقل خلال العقد الحالي. لكن العملات الرقمية غير التقليدية، علاوة ارتفاع احتياطات الذهب، والتداول بعملات أخرى من المؤكد أن تسحب البساط تدريجيًا من هيمنة الدولار.