الرئيسية / كتاب الموقع / لن نذهب إلى هناك مُحملات بالزهور

لن نذهب إلى هناك مُحملات بالزهور

خيرة الشيباني

كثيرًا ما ارتبط الحديث عن علاقة النساء بالسياسة بالعنف المسلط عليهن، من حيث إقصائهن من عمليات المشاركة السياسية ومن دوائر القرار لأسباب ثقافية واجتماعية، أو لعدم التنصيص على هذا الحق في النصوص التشريعية أو من جهة ما يلحقهن من عنف جسدي ومعنوي وجنسي لدى انخراطهن في الحياة العامة.. وفي هذه الحالات تقدم النساء على أنهن ضحايا للعنف.

وبالمقابل، من النادر الحديث عن العنف الذي تشارك المرأة في صُنعه، وإن ظهر في السنوات الاخيرة جهدٌ يُولى لدراسة ظاهرة النساء الإرهابيات، وتغطي هذه الدراسات، بشكل يكاد يكون حصرياً، الإرهابيات الناشطات في بؤر التوتر بالمنطقة العربية.

الفرنسيتان الباحثتان بالمركز الوطني للدراسات الاجتماعية بفرنسا، ألكسندرا فرينو وكارولين جيلبار لافاي تناولتا مسألة علاقة المرأة بصناعة العنف من زاوية أخرى في دراسة صدرت أخيرا بفرنسا بعنوان ”لن نذهب إلى هناك محملات بالزهور“، وقد اهتمت الدراسة بتتبع مسارات نساء انضممن إلى حركات مسلحة في الفترة الممتدة ما بين بداية السبعينيات إلى العشرية الأولى من القرن الحالي.

هن ثمانون امرأة، لا شيء يجمعهن، فهن ينتمين إلى مدارس أيديولوجية مختلفة، ولهن معتقدات دينية متباينة ونشطن في مسارح عمليات متباعدة، تمتد من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية، ومن هناك إلى آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، كما أنهن سعين لتحقيق أهداف يناقض أحيانا بعضها البعض.

هؤلاء النسوة انتمين إلى الجيش الأحمر بألمانيا، وكن عضوات بالألوية الحمراء بإيطاليا وفي منظمة ”أرض الباسك والحرية“ ”إيتا“ بإقليم الباسك، وبحزب العمال الكردستاني بتركيا، والجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، وبالقوات المسلحة الثورية بكولومبيا، كما انتمين وينتمين حاليا لحركات لم تلجأ إلى العنف المسلح، ولكن أعضاءها كانت لهم مشادات عنيفة مع الشرطة في بلدانهم أو في الساحات العالمية التي نشطوا فيها ونشطت فيها المنتميات لهذه الحركات كما كان الشأن بمدينة سايتل أثناء اجتماعات منظمة التجارة العالمية بها عام 1999، أو أثناء اجتماعات مجموعة الثمانية بمدينة جنوة في شهر يوليو 2001.

وقد أجرى فريق بحث مكون من علماء اجتماع وفلاسفة ومؤرخين ومختصين في العلوم السياسية مقابلات مع هؤلاء النسوة لتتبع مسارات حياتهن وفهم الشروط الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى انخراطهن في مثل هذه الحركات، والتي صنف بعضها الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة حركات إرهابية كما هو الشأن، مثلا، بحركة ”الفارك“ الكولومبية التي كانت تستمد مواردها المالية من تجارة المخدرات وسرقة المواشي وعمليات خطف وجهاء سياسيين مقابل مطالب فدية أو تحرير أسرى.

ومن هؤلاء الثمانين سيدة مِمن مارسن العنف السياسي في إطار حركات نشطت خارج قوانين الدول التي نشأت بها، اختارت الباحثتان التركيز على مسارات 9 نساء فقط، وذلك باعتماد منهج علم الاجتماع الشامل والابتعاد عن المقاربات الاختزالية التبسيطية التي تقرن تجارب هؤلاء النسوة بالإرهاب.

ترفض إحدى عضوات فصيل الجيش الأحمر هذا الخلط بين الإرهاب وبين ما كانت تقوم به من أنشطة قائلة: ”إنني أميز بين الراديكالية أو التطرف وبين الإرهاب.. لقد سعت الحكومات ووسائل الإعلام وأجهزة المخابرات للخلط بين هذين المفهومين في حين أنهما متناقضان بالنسبة لنا تماما.. إن الإرهاب يروم إغراق البشر في القلق والتوتر كما يهدف إلى نشر الخوف على نطاق واسع، في حين تستهدف أنشطتنا القادة السياسيين بشكل مباشر وحصري، وبالتالي كانت هنالك أشياء لم أكن مستعدة للقيام بها، ولم ألجا للعنف القاتل إذ رأيت أنني لا أستطيع أن أفعل ذلك، ولم أطلق النار أبدا“.

ومهما كانت درجة انخراط هؤلاء النسوة في العنف، فإنه من المؤكد أنهن لم يذهبن إلى مواقع المواجهة مع الخصم حاملات لباقات من الزهور كما يقول عنوان كتاب الباحثتين الفرنسيتين، ولكن ما الذي يدفع بهؤلاء النسوة إلى اختيار هذا المسار الصعب والشاق في حياتهن.

هل تم التلاعب بمشاعرهن ودُفعن إلى العنف السياسي بسبب العشق والحب الأعمى لرجال نجحوا في إغوائهن وجرهن إلى حياة من التشرد وعدم الاستقرار، وحتى الزيغ والضلال كما تذكر بعض وسائل الإعلام وبعض الدراسات الأكاديمية التي لا تخلو من الجدية؟

إن مثل هذا التفسير ينزع عن انضمام هؤلاء النساء لحركات مسلحة الأهلية السياسية إن لم نقل النضالية ويقدمهن بمنظور جنساني على أنهن غير ناضجات، غير مسؤولات عن خياراتهن بل حتى كائنات شديدة الهشاشة إلى درجة إمكانية التأثير عليهن وحملهن على السير في طريق محفوف بالهلاك والموت.

إنه من الشائع، تقول الباحثتان الفرنسيتان، أن يتم استيعاب تطرفهن ضمن نسوية مُضللة، فإما أن نتهم هؤلاء الناشطات بأنهن سرن في طريق هو غير طريقهن ونخضعهن بالتالي إلى نموذج نعومة نسائية طبيعية تجعل منهن كائنات قابلة للتأثر تحت وطأة الحب والشغف أو نصفهن بالشهوانية المفرطة فنخلط بين حياتهن الجنسية والخاصة وبين نضالهن كما كان الشأن بالنسبة لإيدولا لوباز عضو حركة ”أرض الباسك والحرية “ التي لُقبت بالنمرة التي اشتهرت بهجماتها على الحرس المدني الإسباني اشتهارها ”ببراعتها الجنسية الأسطورية“.

مثل هذا التفسير هو تفسير مرضي ويظل مُرتهنا لنظرة جنسانية للمرأة، في حين أنه تأكد من خلال المقابلات التي أجريت مع المستجوبات أنهن يتوفرن على وعي عميق وفهم حقيقي للقضايا الاجتماعية والسياسية التي دافعن عنها، بل إن بعضهن قمن بعمليات نقد ذاتي لخياراتهن الأيديولوجية والوجودية.

بقي أن نشير إلى أن هذا الكتاب أهمل استجواب مناضلات عربيات انتسبن إلى حركات كفاح مسلح قامت من أجل الدفاع عن قضية عادلة ومن أجل استرجاع الأرض السليبة، فما زالت المناضلة ليلى خالد وفاطمة البرناوي وغيرهن على قيد الحياة، وما زالت أسماؤهن تشع وترسم لها مكانا في الضمير الإنساني العالمي.