الرئيسية / كتاب الموقع / دكتاتورية وسائل التواصل الإجتماعي

دكتاتورية وسائل التواصل الإجتماعي

السفير زياد خازر المجالي

‏قبل اكثر من أربعة عقود كان نقاشي مع أستاذي ومن ثم وزيري وصديقي الراحل الدكتور كامل أبو جابر حول الجدلية إذا كانت الديمقراطية جاءت لتأكيد حكم الأغلبية أم أنها جاءت لتحمي الأقليات من استبداد الأغلبية . و خلال آخر لقاء معه قبل وفاته رحمه الله بأشهر كان حوارنا حول تشكيل الرأي العام و المؤثرات التكنولوجية الحديثة في توجيهه ، وعلى رأسها وسائل التواصل الإجتماعي.

‏أعترف بداية إني لست باحثاً في العلوم الاجتماعية او السياسية، ولا ازيد على أن أكون مراقباً ومعايشاً لبعض الأحداث السياسية المهمة وأعترف أيضا بأني أنا من آثار النقاش الثاني حيث كنت اعتبر انه : بلغ السيل الزبى ، عندما سمعت قبل سنوات عن ضرورة الإسراع في بحث قضية منظورة أمام القضاء لأنها أصبحت : قضية رأي عام !!! ولطالما كنت أعتقد أن استقلالية القضاء ليس ميزانها الاستعجال ولا التباطؤ، وإنما تمحيص تمليه القواعد والإجراءات القانونية ، ولا يجب أن يتأثر بانفعال أو صراخ الرأي العام الذي حصافته تقتضي أصلاً احترام استقلالية القضاء.

‏وقبل أن ابتعد عن اهداف هذا المقال لابد من الاعتراف أن حالة التأثير في الرأي العام – الذي من المفروض أن يكون، أو تتفرع منه فكرة الأغلبية – لأغراض سياسية هي نتاج وسائل كانت مستعملة على مر التاريخ ، و تعلمنا في بلاغة الخطابة كيف أن بروتس أقنع الرومانيين قبل اكثر من ألفي عام خلال خطابه أن يوليوس قيصر كان يستحق القتل ( وهي الجريمة التي ارتكبها بعض مجلس الشيوخ آنذاك ومعهم بروتس نفسه) ثم بعد ذلك كيف أبدع انطونيوس بالخطابة الذكية فعاد ليقنع الرومانيين ( أي الرأي العام نفسه ) أن قيصر بطلاً بريئاً وإن بروتس مجرم قاتل ، وهكذا اقتص الرأي العام الذي انحرف 180 درجة من بروتس.

‏وقد أسوق أمثلة سيظن البعض أني أقصد منها الغمز بالأغلبية سواء كانت منفلتة في الشارع ، أو على منصات التواصل، أو منضبطه في إطار تشكيل رسميٍ ، جماعياً كان أو في إطار تنظيمٍ حزبي ،ولكني في الحقيقة أهدف بشكل رئيسي البحث فيما إذا كان هناك وسائل لحماية المجتمع من الاختراقات التي باتت متاحة وقد تؤذي السلم المجتمعي ، قصداً من أعداء الوطن أو دون قصد من خلال تمرير المعلومات الخاطئة حتى تصبح خطيئة.

‏وفي التاريخ الحديث كان التوظيف الأكبر في (الحرب النفسية ) خلال الحرب العالمية الثانية والتي تم تكريسها في ألمانيا النازية ، ومنذ ذلك الحين كان استهداف التأثير في الرأي العام غاية ووسيلة في العلاقات الدولية التي للأسف ما زالت غير متزنة بعد 77 عاما ودليل ذلك أن العلاقات الدولية ما زالت تنطوي على علاقات قوة لا علاقات سلم وتعاون كما كان يُراد لها في ميثاق الأمم المتحدة ، وفي عالمنا الثالث ما زال هناك مجتمعات تحدث فيها حالات مماثلة لطرفة قديمة حول من شارك في تظاهرة متنامية ضد وعد بلفور ، ولم يكن يصله وضوحاً من الهتاف البعيد فليسقط وعد بلفور ،فكان يكرر :فليسقط واحد من فوق ، ربما كانت طرفة لم تحصل ،ولكنها تعطي التوصيف الصحيح لمن لا يمحّص في دوره في إطار أي تجمع ، أو لمن يحتمي بالمثل الشعبي :إن إنجنوا ربعك ، عقلك ما ينفعك.

‏والأمثلة القريبة ما تم من تفعيل دور وسائل التواصل الاجتماعي خلال الربيع أو (الخريف العربي) فقد كان لها الدور الرئيسي في تكثيف وتحريك الشارع بغض النظر عن الأحزاب السياسية التي كانت تحرك او تستثمر نتاج جهود هذا التواصل.

‏والأردن لم ينزلق قبل أحد عشرة عاما لهذه الفوضى لأسباب واضحة، أولها مستوى التعليم والوعي ، وثانيها طبيعة تكوين المجتمع الأردني والإيمان المطلق من جميع اطيافه أن سلامته في تماسكه أياً كانت الظروف ، ثم والأهم طبيعة العلاقة بين الشعب ومظلته الهاشمية.

‏ثلاث سنوات عجاف اقتصادياً بدأت مع جائحةكورونا أثرت على مجتمعنا كما أثرت على معظم دول العالم ،ويأتي الآن تأثير بعض الحروب الإقليمية البعيدة والتوترات على اقتصاديات العالم ،والأردن من بينها ،ولكننا من العدل أن نقول أن إدارتنا لمواجهة هذه الأزمات التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل ،قد جنبتنا وما زالت الكثير من التأثيرات السلبية.

‏آلمنى أن اسمع من زميلٍ خشيته ( بنية طيبة طبعا ) أن يكون هنالك (ربيع أردني )ومع اني كغيري من المراقبين السياسيين نلاحظ سوء استعمال وسائل التواصل الاجتماعي ليس بمعنى الاعتداء على خصوصيات الآخرين فحسب ، وإنما (وأكرر) قصداً أو جهلاً محاولة التأثير في الرأي العام و الأغلبية لتصبح حالة دكتاتورية تعيق عمل كل مسؤول ، فبدلا من أن يخشى الله ويخشى محاسبة ضميره ومسؤوليته الوظيفية ، يبدأ في الخشية مما يمكن أن تصنفه وتضعه في إطاره وسائل التواصل الاجتماعي صاحبه اليد العليا الجديدة في تكوين الرأي العام (( الدكتاتور الجديد للأغلبية))

‏ومرة أخرى، ومن تجربة موقف الشعب الأردني قبل أحد عشر عاماً، أبشّرُ زميلي بأن الأردن محصّن، فكل أوجاع البطالة والظروف الاقتصادية الصعبة ،لن تجعل الأردنيين ينزلقون الى فكرة تدمير الذات ، و أكتفي إضافة إلى ما سبق وذكرته : الأردنيون ينعمون بنسبة تعليم وثقافة مرتفعة ويحكمون العقل في النهاية لما هو في مصلحة وطنهم ، وعلاقة الأردنيين مع قيادتهم الهاشمية ، هي علاقة عميقة إطارها الوفاء ،وجوهرها قناعة بأنها صمام الأمان الصادق للمجتمع السياسي الأردني، و كلا الطرفين يعلمان معنى جغرافيتنا السياسية ، وأهمية تماسك الديمغرافيا على هذه الجغرافيا في ظل جميع الظروف.