الرئيسية / دين / بيت في الجنّة

بيت في الجنّة

رقية القضاة

على ضفاف النيل المنساب بين المساحات المؤتلقة بالاخضرار،وبين ظلال النّخيل الوارفة المتماوجة ما بين الشمس والظلال،قام قصر الفرعون الكبير،مرتفع البناء واسع الشرفات، تعانق أبراجه الغيوم وتغرق سلالمه الحجرية المصقولة في مياه النيل،وحوله الحرّاس الأشدّاء يحرسون القصر وأهله،وعبر بواباته العريضة يدلف الجند المسلّحون وهم يسوقون امامهم ما اقتطعوه من أقوات الشعب المقهور،وقد انتشى الجند بشعور الفخر وهم يترقبون كلمات الثناء من ذلك الفرعون الذين ادعى الألوهية افتراء ، وأيّده اعلامه ممثلا في سحرته الذين كانوا يشكلون عقول الناس ويتلاعبون بحياتهم ،فالّلهه شعبه قهرا وغباء وجهلا.

في هذا القصر البديع الانشاء ،الذي يجسّد الصورة الكاملة للترف والرخاء،عاشت ملكة مصر وزوجة الفرعون ،عاشت حالة هي الاخرى مجسّدة للترف والرفاهية ،والرغد المطلق ،وتحصّلت هذه الملكة على قلب زوجها وشعبها ،وصارعيشها الناعم أغنية في قلوب النساء المحرومات ،وترنيمة على السنتهن ،تضجّ بالامنيات ،أحلام وأحلام تنساب في الأرواح الشقيّة المسلوبة الكرامة والحرية،تماما كما كان مجد فرعون وملكه ،حلما يراود الرجال الكادحين،
وبطبيعة الحال لم تكن تلك الفئة لتحلم بالملك والسلطة ،ولا حتى بنفس درجة الرفاه الذي يتمتع به الفرعون وأسرته ،ولا حتّى جنوده الطغاة ،وبطانته الفاسدة المفسدة،ولكن حدّ الاحلام لديهم كان يلامس سقف الشّبع والكساء ،ويصل نقطة الحرية في التفكير والتملك المشروع،ان يمتلك الحصادون قمحهم وحبّهم الذي زرعوه ورعوه وحصدوه ،وأن يمتلك الرعاة نتاج ما رعوه وعلفوه،وأن ينعم صغار التجار والصناع بثمرة جهدهم المتتابع ليل نهار ،ولكن هيهات
كان الفرعون يأكل النتاج ، ويخزن الحصاد ،ويكنز المال المسلوب من شعبه المقهور ،ليل طويل يلف مصر ،وفرعونها جاثم على مقدراتها،وحزن مقيم يلف القلوب الكليمة ،وجند فرعون يتحكمون بالارواح الرخيصة ،وانكسار ذليل يرتسم على وجوه البسطاء وهامان وزير فرعون يعد على الناس انفاسهم،في جو من الرّهق والعبودية منقطع النظير عاش أهل مصر وخاصة بنو اسرائيل المستعبدين الاذلاء في ملك الملك المتالّه المتجبر.

وتنظر عين الله الرّحيمة إلى هذا الشعب المقهور ،ويرسل نبيه موسى عليه الصلاة والسلام إلى فرعون وملأه بآيات الرحمة والعدل والإنسانية،فيرفضها فرعون رفضا قاطعا،مشفوعا بسوء الادب مع ربّ العزّة جل وعلا ،وينظر الفرعون حوله ،فيرى النعيم الجليّ،والعيش الرّخي ،ويرى القصور والدور،والمال الوفير،وعبادة المقهورين له،وتأليه الجند لفرعنته ،فينادي بلغة الكبر ولسان الحمق ،وطيش الغرور{أنا ربكم الأعلى }

وتمتد كلمات الله الطيبة تلامس القلوب الطيبة ،وتنبثق أشعة الهدى في النفوس المرهقة المتمنية للسعادة والكرامة ،وتدخل إلى قصر الفرعون دون ان يدر., فتلامس الكلمات الندية قلبها الطيب الرهيف فتدخل في دين الله مقتنعة بعظمته وكماله
وتقلّب آسية امراة فرعون ذكرياتها في قصرها ومع زوجها ،فتجد سنين من الملك العريض والحب الكبير ،والاكرام والنعمة الفارهة،ولكنها تجد في قلبها اعراضا عن كل هذا ،فروحها تتوق إلى الجنّة ،تلك التي وعد الله بها من آمن وعمل صالحا ،وفرعون عمله غير صالح ،إنه صورة الفساد ،الفساد في المعتقد والفساد في الحكم والفساد في الآدمية ،فتعافه نفسها وينفيه قلبها ،ويرتبط القلب الطاهر بمن خلقه ،ويخلص الولاء لله ،فتهون الحياة ،وترخص الرّوح ،وتصغر الدنيا المنعّمة والرفاه العريض في عينها ،فما تطلبه أكبر وأعظم ،إنّها الروح التوّاقة للاستشهاد والجنة والخلود

ويصل نبأ اسلامها إلى فرعون فيفاوضها على النكوص،ويذكّرها بفضله عليها وحبه إيّاها ،واكرامه لها ،فتتمسّك بدينها ،ويعذبها فلا تتراجع ،ويأمر بقتلها ،وتدرك أن لحظة لقاء الله قد أزفت ،فتتوجّه إلى ربّها العظيم بدعاء خالص من قلب مفعم باليقين والرضى ،دعاء المقبل على الله المدبر عمّا سواه،لتكون مثلا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر

وتنالهاعناية الكريم الودود ،ويستجيب اللطيف الخبير لدعاءها ويسطر في كتابه الكريم ،شهادتها ويثبتها لها ويجعلها مثلا للمؤمنين والصّابرين والمستمسكين بحبل الله ،ويجعلها زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنّة فيقول جل وعلا في كتابه الكريم{وضرب الله مثلا للّذين آمنوا امرأة فرعون إذقالت ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظّالمين}