الرئيسية / كتاب الموقع / كأس العالم لم تعد رياضة

كأس العالم لم تعد رياضة

هو الحدث العالمي الأبرز اليوم لكن كل المؤشرات تؤكد أنه لم يعد حدثا رياضيا بل صار فعلا في قلب السياسة الدولية. تتأسس هذه الخلاصة على ما واكب تنظيم العرب لأول كأس على أرضهم منذ تاريخ نشأة الرياضة الأشهر وما حف بها طوال السنوات العشر الماضية من أحداث هامة.

فإذا وضعنا جانبا العوائد المادية الهائلة التي تحيط بكرة القدم وإذا استثنينا الجانب الربحي في أجور اللاعبين وعقود الإشهار والبث التلفزي وغيرها من الموارد المالية المرتبطة بمشاريع البنية التحتية يظهر جليا اليوم أن كرة القدم صارت فاعلا في قلب السياسة الدولية. قد يكون الأمر مرتبطا بتنظيم العرب لأول كأس عالمية بمواصفات ومعايير عالمية هي الأولى من نوعها في تاريخ اللعبة لكن الأمر يتجاوز ذلك إلى مستويات أعمق قد تساعد في فهم ما حدث حول كأس العالم قطر 2022.

صناعة القوة الناعمة

مصادر قوة الأمم والشعوب وسلطتها السياسية تتأتي من مصادر عديدة لكن كل هذه المصادر تتوزع إلى جدولين: جدول القوة المادية العسكرية والاقتصادية والديمغرافية والجغرافية.. وجدول القوة الناعمة ممثلا في الدبلوماسية والثقافة والفن والذكاء الاصطناعي والإدارة والتخطيط وغيرها من المصادر.

بعد الحرب العالمية الثانية وبلوغ قوة التسلح في العالم إلى حدودها القصوى مع استعمال القنابل النووية أدركت دول كثيرة أن مجال القوة العسكرية بمقاييسه الكلاسيكية وصل إلى حدود نهائية. وهو الأمر الذي دفع بالدول العظمى إلى تنويع قدراتها التقنية الدقيقة مثل التجسس والذكاء الاصطناعي والطائرات المسيرة وكل أسباب القوة النوعية القادرة على الانتصار في الحروب دون استعمال ما تسمى أسلحة “الدمار الشامل”. بل صار البحث مركزا على تحسين قدرات “الدمار المحدود” الذي يمنع انزلاق ساحة الحرب إلى الفناء الكبير.

على جبهة مقابلة اندلعت حروب غير مرئية ممثلة في الحروب الرقمية وهجمات الاختراق في العالم الافتراضي ونشطت عمليات قرصنة المعطيات وسرقة القواعد البيانية واخترق أنظمة الحماية حتى أضحى الأمن السيبراني أحد أهم أعمدة الأمن القومي لكل دولة. على هذه الجبهة أيضا اندلعت الحروب الثقافية من سينما ومسرح وأدب وفكر وفلسفة وموسيقى وصولا إلى الرياضة وخاصة اللعبة الأشهر والأوسع جماهيريا أي كرة القدم.

استحوذت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي مثلا على أعلى نصيب من الميداليات الذهبية في الألعاب الأولمبية طوال عقود حتى وصول التنين الصيني. كانت الميداليات الذهبية عنوانا للهيمنة الثقافية والقوة الاقتصادية والنجاح التنظيمي والخبرات التقنية قبل أن تتحول أغلب الرياضات خلال العقود الأخيرة إلى واحدة من الأعمدة الاقتصادية والمالية للدولة.

إن القسم الأكبر والأخطر من الحروب إنما يخاض اليوم على جبهة الفضاء الرمزي وبوسائل القوة الناعمة وأدواتها المختلفة وليست الرياضة وكرة القدم تحديدا إلا إحدى هذه الوسائل والأدوات.

العرب وكأس العالم

ستبقى كأس العالم العربية 2022 حاضرة في ذاكرة الأجيال لعقود طويلة لا لأنها أول كأس عربية فقط بل لأنها مثلت منعرجا تنظيميا وجيوستراتيجيا كبيرا وهو الأمر الذي يفسر الهجمة المرعبة التي تعرضت لها قطر خلال عشر سنوات منذ بدء إسناد التنظيم.

بالأمس القريب صرّح الرئيس الفرنسي ماكرون بأنه “لا مجال لتسييس كأس العالم” فحقوق الإنسان لا تناقش في ملاعب كرة القدم وهو الذي خاضت بلاده أعنف الحملات الإعلامية ضد الدولة المنظمة التي يعتبرها صديقة فرنسا. ليس تصريح الرئيس الفرنسي وخزة وعي متأخرة ولا هي استفاقة من كان يغط في نوم عميق بل هي محاولة فاشلة ومفضوحة لتدارك الجريمة الإعلامية التي ارتكبتها الدول الغربية ضد أول دولة عربية مسلمة تنجح في تنظيم كأس العالم بهذا الاتقان والإبهار.

تصريح الرئيس الفرنسي اعتراف صريح بأن الدول التي هاجمت قطر وعلى رأسها فرنسا إنما كانت تسعى إلى تصفية حسابات سياسية ودبلوماسية واقتصادية مع الدولة الخليجية الصاعدة والغنية. كان الجميع في أوروبا وخاصة أصحاب القرار يدركون أن التهم التي كيلت ضد قطر تهم مفبركة وأنه لا أساس لها من الصحة سواء ما تعلق بحقوق الإنسان أو التلوث أو الفساد وأن الهدف كان غير ذلك. كانوا يدركون جيدا أن سحب المونديال من قطر لم يعد ممكنا وأن الدولة قد حققت إنجازات عظيمة على مستوى البنية التحتية والتنظيمية واللوجستية فبلغت بها مرحلة اللاعودة.

كان الهدف الأساسي للحملة رمزيا لا يخرج عن حروب القوة الناعمة بأن يتم تشويه الدولة المضيفة بكل الأدوات والوسائل والأكاذيب الممكنة وحتى غير القابلة للتصديق فلأوروبا تاريخ حافل في الحروب الإعلامية ضد الآخر المختلف كما فعلت النازية ضد اليهود قبل الإبادة والمحرقة الكبرى. تشويه الآخر وشيطنته يحقق عددا من الأهداف في حروب الجيل الجديد التي تعمل أولا على تعطيل فعل الفاعل عبر الحرب النفسية وإرباك حركته وحشره في الزاوية. ثم هي حملات تستهدف تذكية عقدة الشعور بالنقص التي ربتها عند شعوب المنطقة العربية عبر الحروب والأفلام. تعمل هذه الحملات ثالثا على وضع الآخر في وضع المتهم تارة بالعنف وتارة بالتطرف وطورا بالإرهاب حتى يتحوّل من ضحية إلى جلاد لا يبحث إلا عن التبرير ودفع التهمة عنه. أما رابع الأهداف فيظهر عبر قدرة هذه الحملات على ابتزاز الطرف المقابل بأن يقايَض رفع الحملات عنه بعقود سخية تواصل عبرها الشركات الاستعمارية امتصاص ثروات الأمم والشعوب.

كأس العالم العربية في قطر طور جديد من أطوار التحول الحضاري الذي تعرفه المنطقة والعالم وهي كذلك مؤشر على صعود تنموي سريع لنمور الخليج المحمّلة برمزيتها الحضارية ومخزونها التاريخي العظيم. إن نجحت دول الخليج في تجاوز خلافاتها السطحية ومعاركها الواهية فستكون قاطرة لبقية شعوب المنطقة نحو تحقيق شروط الحرية والتحرر.