كيف تتقدم الأمم!!

د. عبدالله الزعبي.
السياسة الحمقاء هي التفسير البسيط والأوحد والمقنع الذي يؤدي إلى فشل الدول في التقدم والازدهار وتوفير العيش الكريم والرفاه لمواطنيها. ذاك هو الاستنتاج الذي يخرج به مؤلفا كتاب “لماذا تفشل الأمم؟ .. أصول السلطة والازدهار والفقر”، الامريكي-التركي دارون عاصم أغلو، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والبريطاني جيمس روبنسون استاذ العلوم السياسية والاقتصادية في جامعة هارفارد. الكتاب الذي نشر لأول مرة عام 2012 وترجم للعربية عن الدار الدولية للاستثمارات الثقافية في مصر عام 2015، يحاول وبشكل سلس ممتع الإجابة على هذا السؤال المركزي المتشح بذات العنوان على مدار 626 صفحة تتزين بروعة الحجة وأناقة السرد وفيض من عمق التجربة وغزارة البرهان.
الأمثلة التي يسوقها الكتاب للظروف والعوامل التي تجعل البلدان أكثر ثراءً أو فقراً تخضع بالطبع للتأويل والنقاش، لكن البرهان واضح جلي على أن السر لا يكمن في الثقافة أو الدين أو المناخ أو الجغرافيا أو حتى توفر الموارد الطبيعية. المؤكد بأن المؤسسات الاقتصادية الشاملة تلعب دوراً جاسماً يحدد غنى البلدان وازدهارها من عدمه، لكن المعضلة تكمن في تحكم السياسة فيها. إن كوريا، بغض النظر عن الايدلوجيا والمعتقد السياسي، تعتبر أمة متجانسة وشعب واحد، لكن أؤلئك في الشمال يعانون الفقر المدقع بينما اخوانهم في الجنوب يتمتعون بالغنى والبحبوحة ذلك أنهم أنشئوا مجتمعاً محفزاً يكافأ الابتكار ويسمح للمواطنيه بالمشاركة في الفرص الاقتصادية ويحاسب نخبه ومؤسساته على نجاحها واخفاقها.
يسوق المؤلفان الأدلة التي يزخر بها التاريخ وتطفح بها الجغرافيا، دليلاً تلو أخيه، من عمق الماضي السحيق إلى أنات وبسمات الحاضر الساطعة، من اطراف الارض والوانها كلها، من اوروبا البيضاء إلى افريقيا السوداء، باختلاف الالسن واللغات وتباين الاعراق والمعتقدات. امثلة ونماذج، تجارب ونتائج، تلك الناجح منها والصادق وذاك المؤلم الفاشل والمظلم الظالم. افراد على هيئة نخب، يقودون مصير المؤسسات، فمنهم الصالح الذي به يصلح الوطن، ومنهم الفاشل الذي تعتصره انانيته وطمعه فينتهى بدمار العباد وخراب البلاد.
الأنسان ومؤسساته هما، وليس التاريخ والجغرافيا وباطن الأرض، من يحدد غنى الدولة أو فقرها عندما يمتلك اقتصاد فاعل ونظام سياسي تعددي ومجتمع منفتح منافس يخضع لحكم القضاء. إنها إذاً تلك “المؤسسات الرشيدة” المؤطرة بالقوانين والممارسات الجادة التي تدفع الإنسان إلى نهل العلم والمعرفة، تحفزه على العمل المتقن المفعم بالانتاج، تثير فيه مكامن الابداع والابتكار، وتحتضن انسانيته مثلما تراعى آلامه وآماله ومشاعره فتجعل منه مواطناً صالحاً منتمياً ومفيداً لنفسه واهله ووطنه، بعيداً عن الطوباوية والمدينة الفاضلة.
احد الامثلة التاريخية التي تثير الاهتمام والشجون يتمثل في الصراع السياسي الطاحن الذي اخذ مداه في انجلترا إبتداءً من عام 1640 وانتهى “بالثورة المجيدة” عام 1688 ثم “إعلان الحقوق” الذي أصدره البرلمان عام 1689 منهياً فكرة حقّ الملوك الإلهي، مانحاً البرلمان السيادة والكلمة العليا في شؤون الحكم، ملهماً استقلال امريكيا والثورة الفرنسية فيما بعد، وممهداً الطريق للثورة الصناعية الأولى التي ادخلت العالم في عصر العلم والتكنولوجبا. فالثورة الشعبية قامت عام 1642 ضد أسرة آل ستيوارت، والملك شارل الأول تحديداً، بقيادة البرلمان بسبب الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها إنجلترا آنذاك وتحكم الملك المطلق بإصدار القوانين وفرض الضرائب الباهضة والإجراءات المالية على الشعب، علماً أن البرلمان كان شريكاً في ذلك. انتهت الحرب الاهلية تلك بانتصار البرلمان وتتويج شارل الثاني ملكاً مع ظهور اوليفر كرومويل الذي أصبح حاكماً فعلياً للبلاد حتى وفاته عام 1658. استمر شارل الثاني في الحكم لغاية عام 1685 فتولى السلطة من بعده اخوه الملك جيمس الثاني الذي حاول الانتقام لأبيه فحارب البرلمان الذي لجأ بدوره لاخته الملكة ماري الثانية وزوجها ويليام الثالث حاكم هولندا آنذاك اللذان توليا ملك انجلترا بعد تنحية الملك جيمس الثاني.
الثورة المجيدة، أو البيضاء كما تسمى احياناً، غيرت السياسات التي كانت قائمة في انجلترا القرن السابع عشر، ومنحت الشعب حقوقه السياسية فاستخدمها في استرجاع حقوقه وتوسيع ومضاعفة فرصة الاقتصادية ثم طور مسارات سياسية واقتصادية وعلمية جديدة مكنته من التحكم بمصيره حتى بلغ ذروة تحرره العقلي وتفوقه العلمي الذي تجلى بالثورة الصناعية الأولى، وهكذا تتقدم الأمم.