الرئيسية / كتاب الموقع / من ذاكرة الرمثا – طريق الناحية

من ذاكرة الرمثا – طريق الناحية

سعيد البشير الشقران
يذكر الباحثون في تاريخ الرمثا والأردن، أنّ العثمانيون (الأتراك) قد أنشأوا في تقسيماتهم الإدارية لمنطقة حوران (ناحية الرمثا) عام 1912 ميلادي، وكانت تضم كل من قُرى الطرّة والشجرة وعمراوة والذنيبة، وكانت تربط هذه القرى بمركز الناحية (الرمثا) طريقٌ غير معبّد.
واستمرّت حالة الطريق على هذا النحو حتى بدايات الستينات من القرن الماضي، حيث قررت الحكومة مُمثلةً بوزارة الأشغال العامة، أو ما كانت تُعرف (بالنافعة). إذ كانت وزارة الأشغال آنذاك تُشكل ورشاً من العمال للعمل في إنشاء الطرق في الأرياف والقرى، وخاصةً في السنين المُجدبة، حيث تقلّ نسبة هطول الأمطار، فلا ينبت الزرع ولا يدرُّ الضرع، وتكون أحوال الناس في فقرٍ مُدقع. ولتخفيف نسبة البطالة والتي تكون عادةً عاليةً جداً، ولتنفيع الناس تعمل الحكومة على تشكيل هذه الورش، تستفيد منها الحكومة والناس. وكان يعمل في هذه الورش مختلف فئات الناس في الرمثا، من الذين يملكون الأراضي الكبيرة ومن (الفلّوتييِّن) أي الذين لا يملكون متراً واحداً من الأرض الزراعية. فالكل سواسية من حيث الفقر في مثل هذه السنوات العجاف.
وفي عام 1960م على ما أذكر وكنت في الصف الأول إعدادي أو الثاني الإعدادي (السابع أو الثامن) وكانت سنة مُجدبة لا زرع ولا مطر، وكانت الناس في حالة فقر مدقع ولا قمحٍ ولا شعير.
فشكلت النافعة ورشاً للعمل في تعبيد طريق الناحية تبدأ من جانب المسلخ القديم وإلى الطُرّة شمالاً. وكان الفصل صيفاً ولم يكن التسجيل في هذه الورش بالأمر السهل إذ يجب أن تذهب إلى القائم مقام (وهو الحاكم الإداري آنذاك) لكي يسجلك في احدى الورش. ولما كنت صغيرّ السن لم يقبل سعادته بتسجيلي، فاستعان والدي رحمه الله بأحد الوجهاء من أقاربي لتسجيلي، وكان لي ذلك.
ولسوء الحظّ كان مقرّ ورشتنا في مغاريب الطُرّة، في وادي الطُرّة حيث كانت الورشة تجمع (الحصمة) من قاع الوادي وتُحمِلها بواسطة (الكريكات) في القلاّب، لم يكن هناك مواصلات وخاصة في الصباح الباكر إذ على العامل أن يكون متواجداً في موقع الورشة في الساعة الخامسة والنصف صباحاً، وتستمرّ فترة العمل حتى الخامسة عصراً، يتخللها نصف ساعة للإفطار، وساعة للغداء.
كانت وزارة الأشغال قد استأجرت من أحد المواطنين في الرمثا سيارة قلاب لنقل الحصمة من الوادي إلى الطريق (مكان التعبيد)، فكنّا نستقل هذا القلاب إلى مكان العمل من الخلف وكان عددنا يناهز الأربعين عاملاً، فتحسبنا كتلة بشرية واحدة. فإذا مال القلاب نحو اليمين نميل معه ونحو اليسار كذلك، وإذا واجهنا مطب من المطبات الكثيرة في هذه الطريق نُحسُ بأنّنا سنقع على الأرض. ومع ذلك كان سائق القلاب يتّقاضى بين من كل عامل قرشاً واحداً علماً بأنّ اجرة العامل اليومية تتراوح بين 25 – 27 قرشاً في اليوم. واستمرّ الحال على هذا النحو عدة أيام، فوجئنا بأن القلاب المذكور قد ترك العمل، ولم يكن هناك بديل واضطررنا للذهاب للعمل مشياً على الأقدام مسافة 12 كيلو ذهاباً وأخرى اياباً، فنذهب مع آذان الفجر حتى نتمكن من الوصول إلى مكان العمل في الوقت المحدد، وإلاّ سيقوم مساعد رئيس الورشة من تشطيبك من العمل.
استمرّ الحال على هذا النحو أكثر من أسبوعين، ولكن لحسن الحظّ قد تمّ نقل المرحوم مناور البركات الزعبي (أبو إبراهيم) كمساعد لرئيس ورشتنا فتّم نقل موقع عملنا (نحن العمال الرماثنة) إلى مواقع فريبة من الرمثا عند خربة القصير ثم بالقرب من المحاسي، وبذلك تمّ التخفيف عنا من عناء المشي المضني.
كُنّا مجموعة كبيرة من طلبة مدرسة الرمثا الثانوية (الإعدادي والثانوي) منهم من أصبح من كبار رجالات الدولة ومنهم الأطباء والمهندسين. أمّا من كان معنا من الرجال الكبار في السن أذكر عمي عايد المفلح البشير، محمود السليم البشير، موسى شحادة خويلة، رستم الشيوخ رحمهم الله جميعاً، وغيرهم الكثير من أبناء عشائر الرمثا ممن لم تُسعفني الذاكرة بتذكر أسمائهم.
ومن طريف ما أذكر ونحن في ورشة أبو إبراهيم المرحوم مناور البركات، حيث كان رحمه الله يخفف عنا أعباء العمل، وكان كبير السن، لذلك وعند الظهيرة حيث ترتفع درجة الحرارة كثيراً، فيجعل من عُكازته وعبائته خيمةً يستظلّ بها ويؤخذ بعض القيلولة، ثمّ يوكل أمر الورشة إلى عمي عايد المفلح، ويقول له: ((دير بالك يا عايد على الورشة))، والمعروف عن عمي عايد رحمه الله سرعة البديهة والفكاهة والنكتة تخرج من فمه دون تكلف. ولذلك كنّا لا نُحسُّ بعناء العمل تحت الشمس المحرقة، فعندما يأخذ أبو إبراهيم قيلولته وينام قليلاً ويوصي عمي عايد بأمور العمال، عندها يقول عمي عايد للعمال: ((ديروا بالكم لا حدا يأتي بأية حركة، لا تزعجوا أبو إبراهيم، خلوه يعرف ينام))، فيسمعه أبو إبراهيم ويقول له: ((الله يجازيك يا عايد أنا هيك وصيتّك)) ويضحك ويقول: (( بسّ ديروا بالكوا من المراقبين)).