الرئيسية / كتاب الموقع / المملكة على أعتاب المئوية الثانية

المملكة على أعتاب المئوية الثانية

د. عبدالله الزعبي.

شارفت المئوية الأولى على إنشاء المملكة الأردنية الهاشمية على الإنتهاء وولوج المئوية الثانية، وتلك معجزة بكل معانيها إذ لم يكن شرق الأردن إبتداءً ظاهراً على خرائط سايكس-بيكو الإستعمارية التي قسمت تركة الدولة العثمانية بل كان جزءاً من أرض وعد بلفور المشؤوم، مثلما كان يفتقر إلى الموارد والمعالم الطبيعية والعمق الديمغرافي والتاريخ المتمايز. تعاضدت مجموعة من العوامل التاريخية إذن على قيام الإمارة، منها انطلاق هجمات حزب الاستقلال (الجمعية العربية الفتاة) على قوات الانتداب الفرنسي في سوريا من أرض الأردن ورغبة الإنتداب البريطاني في منعها ثم تهيئة الظروف الجيوسياسية لقيام وحماية دولة اسرائيل بإعتبار الأردن منطقة عازلة مع العراق ودول الخليج النفطية، ولكن أهمها كان الوفاء لأبناء الشريف الحسين بن علي بوعود التاج البريطاني بإنشاء مملكة عربية بقيادة هاشمية، وغيرها من اسباب استراتيجية في ذاك الزمان.

ساد الثلث الأول من المئوية أجواء من الترقب والإلتباس بسبب الإنتداب البريطاني على المملكة مثلما إلإرتياب من الهجرة اليهودية إلى فلسطين وطبيعة القيادة النخبوية التي انحصرت في الأمير وشيوخ العشائر والسياسين والعسكريين العرب. مرحلة البناء الشاقة تلك شهدت كذلك سلسلة من المؤتمرات الوطنية والحركات السياسية والثورات المسلحة لكنها إنتهت بإعلان الاستقلال ورحيل الأجنبي ورسوخ بنيان المملكة وأجهزة الدولة وإعلان الدستور. الثلث الثاني من المئوية قاده الملك الحسين، واحد من اعظم القادة السياسين العرب في القرن العشرين، بحسه السياسي العميق وشخصيته الكازيمية وقربه من نبض الشعب، فحافظ على التوازن السياسي والاجتماعي الداخلي، ولعب بمهارة فائقة في الساحة الإقليمية المضطربة حيناً والملتهبة أحياناً كأنه يرقص على رؤوس الثعابين لفترة قاربت النصف قرن، وفيها اكتمل بناء الدولة ونضجت الحياة السياسية واستتب الملك وتوطدت اركان الحكم. لكم ذلك لم يكن مجاناً إذ تعرض العرب لنكبة ونكسة وضياع فلسطين وهجرة أهلها خصوصاً للملكة التي احتضنتهم وأصبحوا مكوناً اساسياً من مواطنيها، وما تبع ذلك من شرخ نتيجة احداث ايلول المؤسفة التي مثلت صراعاً بين النظام ومنظمة التحرير الفلسطينية ولم تكن حرباً أهلية بين مكونين إطلاقاً، لكن تداعيتها ما زالت ماثلة في الذاكرة السياسية للبلاد.
الظروف الساسية تلك دفعت النظام الأردني إلى اعلان الأحكام العرفية وتعطيل الحياة السياسية ومنع الأحزاب وتضييق الحريات، كذلك التحالف مع الغرب، عراب اسرائيل وصانعها وصديقها، ثم الدخول مع معها في معاهدة سلام تلاقي للآن رفضاً شبه مطلق من الأردنيين. المحزن أن فريق السلام الأردني المفاوض سيطر كلياً على مفاصل الدولة السياسية والأدارية لفترة طويلة وما زال، من أجل حماية المعاهدة وضمان تنفيذ شروطها، ما أدى إلى تهميش شريحة واسعة من الكفاءات السياسية والثقافية والأكاديمية في البلاد من المشاركة في إدارة شؤون المملكة وقيادة مؤسساتها، وبالنتيجة وصم السياسة الأردنية بالأحادية والإستئثار كما الإقصاء والتهميش، ما أدى إلى تسطيحها ورداءة أداءها.
الثلث الثالث من المئوية شهد تنصيب الملك عبدالله الثاني ملكاً، فبدأ عهده بتبني التيار النيوليبرالي والتركيز على البعد الإقتصادي للنهوض في البلاد وبذلك انتهج مساراً مغايراً لإسطوره سلفه أفضى في النهاية إلى برنامج التحول الإقتصادي والذي أنتهى ببيع معظم الشركات والمؤوسسات المملوكة للدولة، ففقدت مقدراتها وأرتفعت المديونية وزاد الإعتماد على المساعدات الخارجية واستشرى الفساد وأخذ الإصلاح السياسي مقعداً خلفياً في برنامج الدولة وظهرت طبقة سياسية انتهازية منفصلة عن معاناة الشارع وآلامه ونبضه وطموحاته. حدث ذلك بالتزامن مع الربيع العربي ونشوء حراك شعبي في المحافظات، خصوصاً الجنوبية التي تعاني الفقر والتهميش، وبرز تيار عشائري ينادي بالإصلاح الدستوري، وسادت البلاد أجواء من الترقب والتشكيك وعدم الثقة بين الدولة والمواطن حتى إنتهت الأمور بالإضراب والمظاهرات الواسعة وسقوط الحكومة.
يقف الأردن اليوم على مشارف المئوية الثانية وهو يستلهم أحداث الرابع التي ستشكل معلماً مهماً في تاريخ المملكة السياسي، إذ اثبتت أن الأغلبية الصامتة من الطبقة الوسطى قد نطقت عندما تغولت عليها السياسة الخرقاء وهددت قوتها ووجودها، وأن الشأن الداخلي البحت تصدر المشهد، والشباب تقدم الصفوف، وتوحدت مكونات المجتمع وجغرافيته، وتوارت النخب السياسية المحنطة، وتلافى الأمن الصدام، وسمت القيادة السياسية عن المناكفة والإنتقام بل تفهمت وأستثمرت الأحداث بإحتراف. كل ذلك ينبيء بأن الدولة بحاجة ماسة لكل أبنائه، ثروته ورأسماله الحقيقي، من أجل البناء والإعتماد على النفس والتخطيط للمستقبل، ذاك أن السياسة تصبح ضرباً مهلكاً من الجنون عندما تنفصل عن العلم والفلسفة، وأن مسؤولية الدولة هي وضع خطة استراتيجية واحدة للعلم والتكنولوجيا والإبتكار تساهم في استثمار الراسمال البشري في التنمية الإقتصادية والإجتماعية، ومنها تنبثق كافة السياسات وبرامج العمل الحكومية والوزارية وخطط االإستثمار والصناعة والزراعة والتعليم والتوظيف، وحتى القوانين والتشريعات. ولعل المأخذ الأساسي على الدولة الأردنية في مئويتها الأولى يكمن في عجزها عن استثمار كفاءة رأسمالها البشري وطاقته وطموحه في بناء البلاد بشكل فاعل خصوصاً في العلم والتكنولوجيا.
تجاوز المملكة أخطار الرمال المتحركة في منطقة الشرق الأوسط منوط إذن بأمرين، أولهما استثمار رأسماله البشري وثانيهما الإصلاح السياسي، وذاك الإصلاح يحتاج بدوره إلى أمرين، أولاً مؤتمراً للتصالح الوطني بين كافة مكونات المجتمع السياسية والعرقية والثقافية والدينية، ليس أن هناك نزاعاً أو خلافاً، ولكن من أجل تأكيد وتجديد وتحديد ثوابت الدولة وعناصر المواطنة والهوية والمصالح والأهداف للحكومة والمجتمع والفرد، أو ميثاقاً وطنياً جديداً على غرار “إعلان الحقوق” الذي أعقب الثورة المجيدة في انجلترا عام 1688. وثانيهما قانوناً للأحزاب يلغي كافة الأحزاب السابقة وينشأ بموجبة عدداً قليلاً من الأحزاب لا يتجاوز الأربعة (اسلامي، وطني، ليبرالي ، قومي يساري على سبيل المثال) تدعمها الدولة مالياً، ويمنع بموجه مزاولة العمل السياسي إلا عبر تلك الأحزاب من مثل الترشح للبرلمان ومجالس البلديات واللامركزية واستلام الحقائب الوزارية، وبموجبه يتشكل البرلمان والحكومة ويحافظ فعلياً على الدستور.
تخلو ذهنية الشباب الأردني الآن من موروث الصراعات السياسية والحزبية على الساحة الأردنية في القرن الماضي، لذا فإن تربته جاهزة للعمل السياسي من رحم الوطن دونما تأثيرات خارجية أو أيدولوجيات مستوردة بإجندات أجنبية، وتلك فرصة وجب استثمارها لتغيير النهج السياسي والعقلية العرفية والذهنية الضيقة التي تتجسد في الإستئثار في السلطة والنفوذ والإمتيازات وإقصاء شرائح واسعة من المجتمع وتهميش الكفاءات وتشجيع الفساد بأشكاله المختلفة، وتلك بالتأكيد وصفة مثالية للفشل والإخفاق في ظل العولمة الموحشة وتداعيات الثورة الصناعية الرابعة التي بدأنا نشعر بآثارها إذ تدفع الوطن إلى أقصى أطراف الهامش ما لم يحسن استثمارها بالعلم والتخطيط الاستراتيجي. وكما قال نجيب محفوظ: “السياسي الناجح يستمع إلى نصائح الشيوخ لكنه غالباً ما يتبع آراء الشباب”.