الرئيسية / كتاب الموقع / سيكولوجيا الشتات في صفقة القرن

سيكولوجيا الشتات في صفقة القرن

سيكولوجيا الشتات في صفقة القرن

إن المشكلة اليهودية تضرب جذورها في التاريخ وتمتد على مساحة العالم القديم والحديث وتتداخل فيها الأمم عبر العصور، ولا تكاد تخلو منطقة من آثارها وتداعياتها وتعقيدها حيث إمتزج فيها المعتقد الديني مع الخصام السياسي والصراع الدولي والمصالح الذاتية. كما تمثل عقيدة الشتات محوراً أساسياً للنفسية اليهودية منذ نشأتها الأولى عند خروج قوم موسى من مصر قبل حوالي 3300 عام. وتميزت علاقة اليهود مع القبائل والشعوب الأخرى بحالات من المد والجزر، النزاع والخصام والعداء وبعض فترات وجيزة من التصالح والمهادنة والسلام، إبتداءً من غزوهم لأرض كنعان وعيشهم في ظل القبلية وفترة القضاة ثم إقامة مملكة داود وسليمان الموحدة في الفترة (1050-930) قبل الميلاد، ثم مملكة اسرائيل الشمالية التي دمرها الملك سنحاريب الآشوري عام 722 قبل الميلاد وإنتهت بالسبي الأول، ومملكة يهوذا التي دمرها الملك البابلي نبوخذ نصر 586 قبل الميلاد وأسفرت عن السبي الثاني، وهكذا بدأت قصة الشتات في أرجاء المعمورة ولم تنتهي لغاية اليوم. ذلك أن اليهود حاولوا إقامة دولتهم ثانيةً بعد أن حررهم الملك الفارسي كورش (600-530 ق. م.) عام 538 قبل الميلاد، لكن محاولاتهم فشلت وعاشوا في ظل الدولة البطلمية (301-198 ق.م.) بعد غزو الأسكندر المقدوني للمنطقة وانتشروا في حوض البحر الأبيض المتوسط ووصلوا روما وجنوب فرنسا وأسبانيا وشمال إفريقيا ومصر. ثم خضعت بعد ذلك فلسطين للإمبراطورية الرومانية (63 ق.م.–638 م.) لكن اليهود تمردوا على الحكم الروماني عام 66 ما دفع الامبراطور العاشر تيتوس (39-81) إلى تدمير القدس عام 70 وسبي اليهود مرة أخرى وبيعهم عبيداً في روما، ما عزز تواجدهم في أوروبا حتى وصلوا إنجلترا .

شكًل ظهور الإسلام نقلة نوعية في حياة اليهود بعد فتح بيت المقدس عام 638 والتعايش مع العرب سلمياً، وبإستثناء حالة التوتر الأولى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وإجلاء بني قينقاع وبني النضير عن المدينة المنورة وخيانة بني قريظة وفتح خيبر عام 628، فقد نعم اليهود كأهل كتاب بالسلام في ظل الدولة الإسلامية في كافة مراحلها وتحالفوا مع المسلمين في عدة مواقف إبتداءً من فتح فارس عام 639، ثم تعاونهم مع طارق بن زياد في فتح الأندلس وحماية أبي جعفر المنصور لطائفة القرائين، كما تقلدوا المناصب العليا في الدولة من مثل حسداي بن شبروت الذي أصبح وزير مالية الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث في قرطبه وطبيبه الخاص عام 940، وإسماعيل بن نغريلا وزير ملك غرناطة وقائد جيشه في الفترة 1024-1038. كذلك أعاد صلاح الدين اليهود إلى القدس عام 1190 بعد تحريرها من الصليبيين، واستقبل العثمانيون من لجأ منهم من أوروبا عند فتح القسطنطينية عام 1453، وسمحوا لهم بالإقامة في فلسطين، كما أرسل السلطان العثماني بايزيد الثاني (1447-1512) الذي تقلد الحكم في الفترة (1481-1512)، قائد الأسطول العثماني كمال ريس (1451-1511) لإنقاذ العرب واليهود السفارديم من محاكم التفتيش الإسبانية عام 1492 ومنحهم الإذن للإقامة في الدولة العثمانية. كما امتلك اليهود الحرية التامة في التجارة والسفر غير المشروط عبر الحدود وأضحوا قوة تجارية ذات مال ونفوذ وصلت الصين شرقاً وفرنسا غرباً، وعاشوا عصراً ذهبياً في الأندلس طوال الحكم الإسلامي (711-1492)، وهكذا نعم اليهود بحالة من الإستقرار والإزدهار والسلام والتعايش مع العرب، مسلمين ومسيحيين، وشكلوا جزءً مهماً من النسيج الإجتماعي رغم الإختلاف التاريخي والعقائدي والثقافي وحصول بعض الخلافات والممارسات الرسمية والشعبية السلبية على فترات متقطعة.

أما الشتات اليهودي في أوروبا فيروي قصة أخرى، قصة اتسمت بالدموية والعنف وطبعت بالعنصرية والإضطهاد الديني وذاق في ظلها اليهود الأمرين. فعلى كامل المساحة الأوروبية، وفي كل بلد تواجدوا فيه تقريباً، تعرض اليهود لإضطهاد الكنيسة والدولة والعامة، شاملاً الطرد والنفي الكامل من البلاد، إبتداءً من قرار الملك إدوارد الأول الذي قضى بإخراجهم من انجلترا عام 1269 ولم يعودوا إليها سوى بقرار فردي من الحاكم اوليفر كرومويل عام 1657، مثلما طردوا من فرنسا عدة مرات أعوام 1182، 1322، 1394، 1306، وتعرضوا للماذبح أثناء الحملات الصليبية الأولى في طريقها من أوروبا إلى القدس، كما خضعوا لمحاكم التفتيش الإسبانية التي أقامها الملك فرناندو الثاني والملكة إيزابيلا الأولى عام 1478 لحماية الكاثوليكية من الذين تحولوا من اليهودية والإسلام إلى المسيحية قسراً عقب سقوط الأندلس، ولم تلغى إلا عام 1834. كذلك تعرض اليهود إلى مذابح شميلنيكي في أوكرانيـا عام 1648، ومذابح روسيا بعد اغتيال القيصر إسكندر الثاني عام 1881، وتكررت في سنوات لاحقة، ومذابح المحرقة في ظل المانيا النازية. وبإختصار، لم يتمتع اليهود في اوروبا على مدار ألفي عام بالقبول والاستقرار وبقوا غرباء ومضطهدين وشكل وجودهم هناك مشكلة أوروبية بحتة.

لذلك يتسم جوهر الشخصية اليهودية على امتداد 2500 عام بعقلية الشتات والنفي والتنقل والإزاحة، بعكس الإنسان العربي الذي تخطى مرحلة البداوة والترحال منذ الفتوحات الإسلامية الأولى وأستقر في مناطقه ومدنه لفترات زمنية طويلة تمتد لمئات بل آلاف السنين، وأصبح شديد الإنتماء للأرض والثقافة والعقيدة. فمثلاً يقول الشاعر قتادة بن إدريس (1132-1219): بلادي وإن هانت علي عزيزة ولو أنني أعرى بها وأجوع، وهذه ميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية بن أبي سفيان، تقول: فما أبغي سوى وطني بديلاً وما أبهاه من وطن شريف، والأمثلة لا تحصى على حب العربي لوطنه وتمسكه فيه، بل اعتبره جزء من شرفه، وفي ذلك غنىً عن كل مثال.

التباين ما بين عقلية الشتات اليهودية والثبات العربية فيما يتعلق بمفهوم الأرض والوطن يشكل جوهر الصراع العربي الصهيوني، وذلك ما لم تدركه الصهيونية العالمية في عجالة إنشاء اسرائيل، وعندما تفاجئت بردة فعل العرب منذ ثورة فلسطين عام 1920 ولغاية اليوم، وعدم قدرتها على إحتواء المقاومة العربية، عمدت على تشويه صورتها فزجت بتهمة الإرهاب على الإسلام حتى تقتل المقاومة الفلسطينية والعربية في نفوس أبناءها، مثلما شوهت صورة العرب في العالم عبر أهم أذرعها في هوليوود، وبذلك وضعت العالم المسيحي الغربي وجهاً لوجه في صراع حضاري مع العرب، ثم أججت الصراعات في العالم العربي كله عبر الربيع العربي المزيف وعرابه الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي، وبذلك نجحت نسبياً في إحتواء المقاومة المسلحة في فلسطين.

اليوم تعد الصهيونية العالمية صفقة القرن عبر الإدارة الأمريكية لإنهاء القضية الفلسطينية وتهجير شعبها إلى شتات من منظور عقلية الشتات في عجالتها الثانية صوب إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل مروراً بخيبر والمدينة المنورة، وحسب حسب مخطط الصهيوني الآخر برنارد لويس. تلك العقلية التي تحاول مرة أخرى تطبيق نظرية الخيمة والبازار التي نجح عبرها الصهيوني هنري كيسنجر في إخضاع أنظمة الحكم العربية إلى إتفاقات سلام وهمية ما زالت ترفضها الشعوب، وذلك عبر تطبيق نظرية الصدمة التي إبتدعها صهيوني آخر هو الأمريكي ميلتون فريدمان والتي تسعى إلى إرهاق وأرباك الناس بعد إخضاعهم لسلسلة من الصدمات الجماعية الضخمة وإفتعال القلاقل والحروب والإضطرابات من أجل تحقيق السيطرة عن طريق فرض العلاج بالصدمة الاقتصادية. صفقة القرن هي تجسيد مثالي لسيكولوجيا الشتات التي طوعت الأنظمة العربية بجدارة وتهدف الآن إلى إخضاع الشعوب العربية عبر تجويعها وتشتيت ذهنها حتى تتخلى عن عقلية الثبات في الأرض والأوطان وتقبل الثمن سواء في الخيمة أو البازار، ذاك الثمن ستسترده اسرائيل، المتخمة بالعلم التكنولوجيا ورأس المال والجشع، من السوق العربي المغرق في الإستهلاك حال مرور الصفقة.

جدير بالنخب والشعوب العربية، من المحيط إلى الخليج، أن تعي جوهر الصراع، وكيف حولت الصهيونية مشكلة اليهود بطبيعتها الأوروبية البحتة إلى قضية عربية شرق أوسطية، وأن تقف في وجه الصفقة وإفشلاها، وعدى ذاك فستكون الصفقة ونتائجها مفتاح بغداد من الغرب، وباب المدينة المنورة من الشمال، وستبدو إسرائيل الكبرى في الأفق على بُعد بضع سنين، وسيدخل العرب أنفسهم في أولى مراحل الشتات التي بدأت تظهر ملامحها في مخيمات اللاجئين على مساحة الوطن الكبير.

د. عبدالله الزعبي.