الرئيسية / كتاب الموقع / صاحبي إذ يأسرك تسامحه

صاحبي إذ يأسرك تسامحه

د. عبدالله الزعبي.

ذات صباح عيد كان فيه الأضحى يغتسل بماءٍ سقيا من الجنان، يحتفل فيه الصغار ببهجة الطفولة البريئة ويعتق الكبار رقابهم من الذنوب والخطايا بذِبحٍ هنا وأضحية هناك، يُحيون ذكرى أحبةً غادروا دار الفناء. كان صباحٌ تشرينياً هادئاً يلتحف الغيوم الملتفة على نفسها بكبد السماء، فيه كانت اشعة الشمس المتسللة خِلسة في الأفق ترسم لوحة شاعرية تروي قصة حنين وشوق وذكريات. بدتْ قاعة المطار خاويةً من المسافرين والمغادرين عيداً ووطناً سوى من رفيق يحتضن قلبهُ عيداً ووطناً ورفق الرفيق الصدوق. وسامة طلته ومحياه وصفاء عيونه الزرقاء البراقة تكاد تنسيك طلاوة لهجته البدوية وحلاوة عروبته الأبدية التي تنساب في ثنايا فكره وأعماق فؤاده. ذاك الصباح في عام 2012، إذ طاف فينا الحديث المسكون بآلام وآمال الأمة، وجابت فينا حكايا الرجاء والمبتغى والغد الطموح حدود الوطن الأكبر، وإذ بالوقت يسرقنا وتقلع الطائرة دوننا مغاضبةً ذاك الحديث وتلك الحكايا. اعدنا الكرة في الصبيحة التالية، فكانت البداية في برشلونة والإنطلاقة والإصرار، رحلة عطاء ومثابرة وإنجاز، شُرعت فيها أبواب التعاون مع العالم الرحب، شرقاً وغرباً، مع وبين الجامعات والمؤسسات، عبر المؤتمرات والمشاريع والإتفاقيات، فيها فُتحت نوافذ الحوار والتجربة الغنية واللقاء، مع اوروبا، من ماليزيا إلى تركيا وروسيا ثم الصين، أوصل الليل بالنهار عبر الآف الأميال، فوق البحار والمحيطات، من طائرة لإختها، يكابد السفر والغربة، بعيداً عن ألفة البيت ودفيء الأسرة والأبناء. جاب صاحبي كل البلاد يرفع راية العروبة والعلم والانفتاح، يُعلي كلمة الأمة في الإتحاد، يرتقي فوق الفرقة والإختلاف، من الصومال إلى بغداد وجيبوتي، إلى اعماق اربيل وليبيا وكل شبر من ارض العروبة المنكوبة حتى جنوب السودان.
رحلة مارس فيها صاحبي فنون المحبة والتسامح، وعزف أنغاماً شتى من التواضع والكرم وسعة الصدر والإيثار. تجربة تسمع اليوم حفيفها وتنصت لألحان ثمارها وحصادها، كان صاحبي عبرها عنواناً للأصالة والنخوة ورمزاً للشهامة والرجولة، إذ نادراً ما تجد بابه موصداً، وأبداً لا تجد مكتبة وبيته خاوياً، حوله المحبين والأصدقاء ملتفين، يقصده اصحاب الحاجة فلا يردوا خائبين، وقلما تجده عابساً أو غاضباً أو محبطاً، تأسرك ابتسامته، ويبث في كيانك الحياة تفاؤله ومثابرته وأمله، قد زاده الله بعفوه عن الناس عزاً، يحلم على من جهل عليه، يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه، عفا فساد، وحلم فعظم، كأنه إلى المجد يسعى وإلى البدر يرتقى، كأنه يخاطبكم يا سادة: إن التسامح زينة الفاضل.
لا أدري، فلعل سره يكمن في مسقط رأسه “أم الدنانير” إذ تنجب عملة نفيسة نادرة، أم قبيلته عندما تغرس جذورها في قلب العروبة النابض بالثرى والمكان، في الغور والشفا والصحراء، أو يكون نمراً آخراً إبناً لعَدوان يعبق بعطر الرومانسية الغائرة في قاموس العربية، يجسد مثالاً حياً للوفاء والحب والأشعار.
كنت أدركت في ذلك العيد المبارك وتلك الرحلة العجيبة أن صاحبي ذو نفس عظيمة، وأن له من اسمه نصيب، واليوم أتسآل فيما لو لم تلقع تلك الطائرة المغاضبة، ماذا لو كان يوماً غير عيد، ماذا لو لم تمطر جنان السماء، ماذا لو لم يكن سلطان!