الرئيسية / منوعات / الرعاية النفسية المتخصصة للأطفال الأردنيين شبه غائبة

الرعاية النفسية المتخصصة للأطفال الأردنيين شبه غائبة

أبواب – تالا أيوب

لا يزال مشهد انتحار عشريني حرقا يطارد الطفلة «حياة» بعد عام على موته أمام عينيها. صراخ الشاب تحت ألسنة اللهب أفقد الطفلة القدرة على الكلام وأدخلها في عزلة وانطواء.

والدا حياة ظنّا في البداية أن مشكلتها تكمن في تأخر النطق، فعرضاها على اختصاصية نطق لكن دون جدوى. ثم نصحت العائلة بعرض ابنتها على طبيب نفسي، فلم تجد متخصّصا ثابتا ضمن كوادر وزارة الصحّة في المحافظة التي تقطنها.

ناقشت العائلة فكرة عرضها على طبيب خاص في محافظة بعيدة، لكنّ الوصمة المجتمعية وكلفة العلاج الباهظة حالت دون ذلك. «لا أستطيع تأمين 50 دينارا للكشفية الأولى، ومبالغ المراجعات»، يقول والد حياة (ست سنوات)؛ أي ما يعادل عُشر دخل هذا الموظف في إحدى الدوائر الحكومية.

تابعت العائلة حال الطفلة لدى عيادة حكومية في المحافظة التي تعيش فيها. لكنّها لم تتحسن بسبب تعدّد الأطباء المشرفين وتنقل ملفّها بينهم، فضلا عن تباعد الفترات بين موعد وآخر؛ وهكذا اكتفت ببضع مراجعات دون نتيجة. والآن بعد مرور عام على مشهد «النيران» لا تتكلم حياة إلا نادرا ومع أشخاص مقربين جدا.

بؤس الطفولة يقوّض عش الزوجية

الأربعيني «أحمد» (اسم مستعار) فشل في عمله ثم انفصل عن زوجته بعد خمس سنوات من الاقتران نتيجة تداعيات صدمة نفسية في الطفولة، أعقبت مقتل والدته بيد والده، ثم انتقاله للعيش مع أحد أقربائه. فواجه طفولة قاسية ظهرت بوادرها في مرحلة الشباب.

طليقة أحمد – رحاب (اسم مستعار) تشرح سبب انفصالها عنه: «لم استطع تحمّل شخصيته العصبية، فهو يحقد على المجتمع، لا يكترث بأي من التقاليد المجتمعية، بالإضافة الى أنه لا يشعر بالذنب أو الندم». شح العلاج بالنسبة لأحمد وصعوبة تأمينه لهذه الطفلة بأسعار مقبولة ترك آثارا نفسية على زواجهما ما أدّى إلى تصدّعه، وفق تشخيص أطباء نفسيين.

طفولة بلا رعاية نفسية

حال حياة وأحمد تختزلان أزمة شح الأطباء النفسيين المتخصّصين في فئة الأطفال، في بلد يعمل فيه خمسة أطباء فقط ضمن هذا الاختصاص، بحسب رئيس جمعية أطباء الأمراض النفسية الدكتور ناصر الشريقي. ويقدّر عدد الأطفال في الأردن بأربعة ملايين و240 ألفا (أكثر من نصفهم أردنيون)، وفق دائرة الإحصاءات العامّة عام 2017. وبالتالي هناك طبيب نفسي متخصّص لكل 848 ألف طفل؛ أي فارق شاسع عن الدول المتقدمة.

ولا يخفى نقص عدد الأطباء النفسيين المتخصصيين على الجانب الرسمي ليس فقط في فئة الأطفال وإنما في فئة الكبار ،إلا أنه يتخذ خطوات خجولة لسد هذا النقص ،فقد أعلنت وزارة الصحة بالتعاون مع ديوان الخدمة المدنية مؤخرا عن الحاجة لتعيين عدد من الاختصاصيين منها الامراض النفسية، ويقول حاتم الأزرعي -وهو الناطق الإعلامي باسم وزارة الصحة- : هذه التخصصات تحتاجها الوزارة بشكل ملح ويتوفر منها أعداد قليلة من أطباء الاختصاص في الأمراض النفسية، اذ ان الوزارة تسعى الى تلبية احتياجاتها خاصة وأن عدد الاختصاصيين النفسيين قليل وبالتالي لا نستطيع تحدد التخصص المحدد لفئة الأطفال فقط».

اختصاصي الطب النفسي بالأطفال الدكتور المقدم رأفت أبو رمان يرجع النقص إلى «ضعف الإقبال على دراسة تخصّص الأطفال بسبب عدم وجود هيئة تعليمية أكاديمية في الشرق الأوسط تدرّس هذا التخصص».

أبو رمّان تخصّص في جامعة ميتشيغان/ الولايات المتحدة، فيما نال زميله العميد الطبيب أمجد جميعان شهادته في جامعة بيرمنغهام البريطانية. وهما يعملان في الخدمات الطبيّة الملكية.

ويؤكد المقدم أبو رمّان أهمية وجود «طبيب نفسي متخصّص بالأطفال في كل محافظة ليسهل على الأهل الوصول إليه، حتى لا يلجأون إلى أشخاص غير مؤهلين فيؤثرون سلبا على المريض».

ويرى أن «طبيب الأطفال يختصر الوقت والجهد والمال، ويعالج الطفل بسرعة»، لافتا إلى أن «الطفل المصدوم نفسيا يتأثر نفسيا وذهنيا أيضاً، ويفقد الثقة بالآخرين وبنفسه، ويقل تقديره لذاته فتصبح شخصيته انعزالية، وسواسية وصاحب شخصية حدّية، غير مستقرة عاطفيا». تستمر هذه الحال «في المستقبل، فيغدو الطفل شخصية ضد مجتمعية، ومن الممكن أن تحدث له اضطرابات سلوكية».

الشعوذة البديلة

أستاذ مساعد في علم النفس الاكلينيكي (تخصّص يدمج بين العلوم والنظريات والمعرفة السريرية) في جامعة عمّان الأهلية الدكتورة فداء أبو الخير تلفت إلى أن: «أسرا عديد تلجأ إلى معالج غير متخصّص، كالمشعوذين مثلا ما يؤدي الى تفاقم المشكلة». وترى أبو الخير أن: «قلّة عدد أخصائيي الطب النفسي للأطفال يوقع الأهالي في حيرة من حيث التوجه للأشخاص المناسبين».

الطريقة المثلى في التعامل مع أطفال خارجين من صدمات نفسية تبدأ عند الوالدين، بحسب أبو الخير، التي تدعو الأهل إلى احتواء الطفل، الاستماع إليه وتفهم وضعه». ويجب «السماح للطفل بالتعبير عمّا تعرّض له بطريقته الخاصة (..) بعد ذلك يجب طمأنته بوجود المحببين حوله، ومحاولة إعادة تأهيل الثقة بالذات، والقدرة على التعامل مع المشكلات بعقلانية ومنطقية مع الموقف حسب شدّته».

أعراض متفاوتة

وتبين أبو الخير أن :»الصدمة عند الأطفال تتفاوت من طفل إلى آخر، فيمكن أن تكون بسيطة، معقدة أوشديدة كرؤية حال موت أو انتحار أو حادث أليم أو فقدان أحد الوالدين أو المقربين بشكل مفاجئ أو تعرض الطفل للإساءة».

وقد تتمثل الانعكاسات في البكاء، الصراخ، الخوف، الإنعزال، التعلق الزائد بالأم أو الأهل بشكل عام، وكذلك تبول لاإرادي، قلق شديد، حزن واكتئاب، تجنب الأماكن العامة، فرط الحركة، الشرود، السرحان، انخفاض المستوى الأكاديمي فضلا عن مشاكل في الذاكرة وعدوانية، على أن الأستاذة أبو الخير توضح أنه «ليس بالضرورة تواجد جميع ما سبق لدى الطفل الذي تعرض للصدمة»، مع أن الأعراض يمكن أن تتفاقم إلى «اضطرابات نفسية من ضمنها الاكتئاب، القلق، المخاوف بأنواعها واضطراب ما بعد الصدمة والوسواس القهري». وفي بعض الحالات :»من الممكن أن يحصل أكثر من اضطراب لدى الطفل على شكل متلازمة»، حسبما تقول.

صدمة الطفولة في المشيب

ويلفت الدكتور عبد الرحمن مزهر – استشاري الطب النفسي والإدمان- إلى أن الطفل غير المعالج نفسيا جرّاء صدمة نفسية سيعاني من أثارها مع نموه ويشهد أعراضها عند كبره «والعديد من المرضى يحتاجون إلى علاج سلوكي إلى جانب العلاج الدوائي»، حسبما يشرح الدكتور مزهر.

تضارب أرقام

تتضارب التقديرات حول عدد أطباء الاختصاص بين الحكومة ونقابة الأطباء، فبحسب مدير المركز الوطني للصحة النفسية الدكتور نائل العدوان، في الأردن 63 طبيبا نفسيا (يصفون علاجات) و16 مختصا واستشاريا (يقدمون جلسات علاجية). في المقابل يراجع 220 ألف شخص 51 عيادة طب نفسي تابعة لوزارة الصحة. هذه المعادلة تؤشر إلى وجود طبيب/ مختص لكل 2800 شخص ينشدون العلاج في القطاع العام. لكن لا يوجد تقديرات لعدد من يحتاجون لعلاج نفسي في الأردن. تقديرات منظمة الصحّة العالمية تشير إلى أن «شخصا من كل أربعة «يعانون أعراضا ذات صلة بالصحّة النفسية، وبحاجة إلى العلاج. هذا يعني أن 2.5 مليون أردني تنطبق عليهم شروط مراجعة طبيب نفسي في مرحلة ما من حياتهم.

أما سجل نقابة الأطباء فيشير إلى وجود 48 طبيبا نفسيا فقط (بينهم ست طبيبات) في القطاع العام، من بين 197 طبيبا نفسيا؛ منهم 45 في القطاع الخاص و 104 في قطاعات أخرى (من بينهم سبع طبيبات). تنتشر عيادات الطب النفسي العام في جميع المحافظات الإثنتي عشرة، بينما تترّكز 42 عيادة خاصّة في ثلاث محافظات فقط؛ عمّان، الزرقاء وإربد، وفق مدير المركز الوطني للصحة النفسية الدكتور نائل العدوان،أما المحافظات التسع الأخرى فتخلو من عيادات طب نفسي خاصّة.

علاج مكلف

«أبواب-الرأي» جالت في 10 عيادات نفسية خاصّة لتجد أن 8 أطباء منهم يتلقون بين 50 و80 دينارا مقابل جلسة العلاج الأولى المحدّدة ب 45 دقيقة، في خرق للائحة أجور الطب النفسي لعام 2008؛ المحدّدة بين 20 و40 دينارا مع وجود هامش زيادة عشرة دنانير.

استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان الدكتور وائل سمارة يبرّر رفع كشفيات العلاج النفسي عن بقية التخصصات الطبية الأخرى بـ»الجهد الكبير» الذي يبذله الطبيب النفسي مع المراجع، بالإضافة الى الوقت الذي يحتاجه كل مريض على حدا».

حماية الأسرة

يقول مصدر في إدارة حماية الأسرة إن: «الطفل يُعرض على الطب الشرعي للتأكد من الأذى الواقع عليه، كما يُعرض على أخصائي اجتماعي ونفسي باستمرار. على أن المصدر الذي رفض ذكر إسمه»لم يحدد فيما إذا كان متخصصا بالطب النفسي للأطفال أم لا».

إدارة حماية الأسرة في مديرية الأمن العام هي أبرز مؤسسة محلية تعنى بالمشاكل الأسرية المتنوعة، ومن بينها تعرض الأطفال للصدمات والانتهاكات.

مواثيق دولية

ضعف هذا القطاع ومعاناة الأطفال يتناقضان مع التزامات الحكومة الأردنية ببروتوكلات حماية الطفل والأسرة، إذ أنها طرف في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل منذ سنة 1991. ،كما أن الأردن صادق على الإعلان العالمي لحقوق الطفل واتفاقية حقوق الطفل اللذين يلزمانه بترجمة بنودها ضمن القوانين المحلية، وعليه أن يزيل أي تعارضات مع هذه القوانين، وأن يعدّل تشريعاته بما يضمن تنفيذها.

وينبه مستشار الطب الشرعي، والخبير في مواجهة العنف لدى مؤسسات الأمم المتحدة الدكتور هاني جهشان إلى أن: «المادة 39 من اتفاقية حقوق الطفل نصّت على واجب الحكومة توفير العلاج النفسي بالإضافة للجسدي والتأهيل الاجتماعي لضحايا العنف والنزاعات المسلحة».

ويرى أنه على الحكومة الأردنية وفقا لنص المادة توفير العلاج النفسي للأطفال الوقائي والعلاجي لكافة الأعمار أينما وجدوا في أماكنهم. كما يشير إلى غياب تشريع أردني متخصص بالتعامل مع الأمراض النفسية للبالغين والأطفال. إذ تقتصر المادة 14 من قانون الصحة العامة رقم 47 لعام 2008 على أربع مواد حول الصحة النفسية والإدمان؛ منها المرجعية في الإدخال جبرا للمستشفيات إذا كان المريض يسبب أذى لنفسه و/ أو للآخرين. أما قانون الحماية من العنف الأسري رقم 15 لسنة 2017، فسمح للمحكمة – في المادة 11 المتعلقة بالعنف الأسري- بأن تطلب «إلحاق أطراف النزاع ببرامج علاج نفسي واجتماعي تنظّمها الوزارة أو أي جهة يعتمدها الوزير لمدة لا تزيد عن ستة أشهر».

وبينما يرى أن غياب تشريع أردني خاص بالتعامل مع الأمراض النفسية يشكّل عائقا أمام تقديم الخدمات، يلفت د. جهشان إلى أن 75% من دول العالم لديها تشريعات خاصّة بالصحة النفسية، وفق منظمة الصحة العالمية.

ويشدّد على ضرورة إقرار تشريع أردني خاص بالطفل «حقوق الطفل» بحيث يحوي محورا خاصا بالصحة العقلية والنفسية للطفل، لافتا إلى أن خدمات الطب النفسي في القطاع الحكومي بحاجة لتطوير جذري لنقص الكوادر وهجرة الكفاءات.

شح الرعاية النفسية للأطفال وانعكاس الصدمات النفسية على حياتهم، بما يؤثر سلبا على المجتمع، يتطلبان عملا جديا لملء الفراغ بتوفير الرعاية الصحية النفسية المتخصصة للأطفال بكلف معقولة إن لم تكن مجانية، وسن تشريعات تواكب العصر بما يسد هذه الثغرة، فهل من مبادر؟

#الرمثا_نت