الرئيسية / كتاب الموقع /  يعاتبني اليومَ قومي

 يعاتبني اليومَ قومي

د. م. منذر حدادين

طلعت علينا من الأقوال مجدداً تحكي قصصاً عن مفاوضات الوفد الأردني مع الوفد الإسرائيلي لإبرام معاهدة السلام وتارة تنتقد وتشكك في قدرة المفاوض الأردني وثالثاً تنسج خيالاً بموجبه قالت إن خبراء مياه أجانب خدموا في الأردن وفاجأوا الوفد الأردني بظهورهم أعضاء في الوفد الإسرائيلي المفاوض! ورابعة تدعي أن ما يحصل عليه الأردن من مياه هي مياه صرف صحي! وتالية تدعي أن الأردن عدل قوانين تملك الأراضي ليسمح للأجانب التملك كيما يتملك الإسرائيليون أراض أردنية، وغيرها ما تضيق الذاكرة عن استيعابه.

وأجد نفسي منفرداً في الدفاع عن الأداء الأردني، وذلك يشرفني، إذ كنت عضواً رئيسياً فى الوفد الأردني للمفاوضات الثنائية، وكنت رئيس الوفد الأردني لمفاوضات مجموعة عمل المياه في المؤتمر متعدد الأطراف. وأعترف أنني لم أتطوع للخدمة في عملية السلام مع أن شرف خدمة الوطن يملي على أبنائه التطوع، وذلك شرف يداني شرف خدمتة في ميادين المواجهة المسلحة مع أعدائه. لكن نداءً سمعته عن بعد يناديني أن أنضم للنخبة التي اختارتها البلاد للدفاع عن مصالحها ولما تأكدت من مصدر النداء وصدقه يوم 23/11/1991 لبيت ذلك النداء. فيكون قد مر مذّاك قرابة ثلث قرن من الزمان.
أحمد خالق السموات والأرض أن قد كتب لي أن أسمع تلك الادعاءات، وقد سمعت أقل منها في العقد الذي تلا إبرام اتفاقية وادي عربة وتنطحت لتبيان زلل المدعين وشطحاتهم. وبعد كل هذه السنين أسمع مزيداً من الادعاءات وتنوعاً في محتواها، وأجد لزاماً عليّ التنطح لتبيان بطلانها جميعاً حماية لعقول الناس من غزو الشائبات وحماية لتاريخ الوطن من تدوين الترهات.
وأبدأ بالتأكيد أن تعليمات الملك للوفد المفاوض قضت بأن نقدم كل الدعم للأخوة الفلسطينيين الذاهبين إلى مؤتمر دولي للسلام تحت مظلة الدولة الأردنية وأن نصون عروبة القدس مهما غلا الثمن. ويشهد القاصي والداني ما استعد كل واحد منا تقديمه لشد أزر المفاوضين الفلسطينيين. ثم كانت أوسلو في أيلول عام 1993 وخروج الوفد الفلسطيني من ظلال المظلة الأردنية، واستقلاله في التفاوض مع إسرائيل. ولم يفت ذلك في عضد الأردن حتى أنه وافق، بإصرار من الراحل ياسر عرفات، على تأجيل الأردن مفاوضاته حول قضية اللاجئين الفلسطينيين (وهم يحملون جنسيته) مخافة أن يقرر التفاوض الأردني حولها مصير مفاوضات الفلسطينيين حول قضية اللاجئين الفلسطينيين الآخرين.
وكان وزير الخارجية السوري في اجتماع تنسيقي بين الوفود العربية المشاركة في المفاوضات قد رسم “خارطة الطريق” بقوله في دمشق: “كل واحد يخلع شوكه بإيده”، أي لا مؤاخذة يجنيها أي وفد من التقدم عن سواه في الوصول إلى سلام مع إسرائيل. وتشهد الأحداث أن الأردن توصل مع إسرائيل إلى نصوص وثيقة جدول الأعمال المشترك للمفاوضات في 28 تشرين أول عام 1992 وتوقف عن محاولة إحراز أي تقدم في التفاوض (خلع شوكه بيده) في انتظار أن يحرز الأخوة الفلسطينيون إنجازاً مماثلاً في وفدهم، وكانت مفاجأة أوسلو التي وقعها الفلسطينيون يوم 13 أيلول 1993 فوقع رئيس الوفد الأردني المرحوم الدكتور فايز الطراونة مع رئيس الوفد الإسرائيلي جدول الأعمال المشترك، أي بعد عشرة شهور ونصف من إنجازه.
أسوق هذه الأحداث كي لا تفيض العواطف الجياشة في صدورنا جميعاً نحو فلسطين، وخاصة هذه الأيام، لتسحبها على بيئة سياسية ودولية سادت قبل ثلث قرن مضى، أو تسحبها على جو استجد منذ اتفاقية وادي عربة حيث ترى اليوم راعي المفاوضات بالأمس وقد انحاز إلى جانب إسرائيل كلياً، ولم يعد ذلك الوسيط النزيه الراعي لعملية السلام.
وأعود لمواجهة الادعاءات الجديدة لأقول:
1. إن الاتفاقية ضمنت للأردن حيال إسرائيل أكثر مما وافقت عليه اللجنة العربية التابعة لمجلس جامعة الدول العربية عام 1955 قبل المصائب التي حلت بالعرب منذ ذلك التاريخ وموعد ابرام الاتفاقية في 26/10/1994. وأن مصدر المياه القادمة إلينا من إسرائيل هو بحيرة طبريا وعبر أنابيب تنقل المياه من البحيرة إلى مثلث اليرموك الإسرائيلي ومستوطناته، وقد تجشمت عناء الكشف على تلك المسارات بدءاً بمحطة الضخ عند المأخذ بجوار بوابات بحيرة طبريا حتى وصلت الخزان النهائي القريب من ضفة نهر اليرموك الشمالية. ولا صحة إطلاقاً لما أشاعه بعض المغرضين ومنهم من قضى نحبه، والله غفور رحيم، عن كون المياه تلك مصدرها الصرف الصحي الإسرائيلي!
والنقص في نصيب الأردن من مياه اليرموك، وهو نقص بيّنٌ وواضح، ليس رعونة إسرائيل بل هو نتيجة استحواذ الشقيقة سوريا على أنصبة للأردن منذ بنائها أول سد في حوض اليرموك وهو سد درعا عام 1968 دون إشعار الأردن بذلك. وقد اكتشفنا الاستحواذ السوري عام 1976 حين ذهبت في جولة لزيارة الحوض في جانبه السوري تمهيداً لبدء دراسات سد المقارن يومها (الوحدة الآن). وكان لي بسببها صدام وجاهي مع رئيس الوزراء السوري السيد محمد على الحلبي عام 1979.
وأبدي استعدادي لنقاش أو حوارعلني، وعلى شاشة التلفاز، مع أي مدعٍ يخالف ما دونته هنا من معلومات.
2. أما ما ادعاه مؤخراً بعض ال Neonationals أي الوطنيين الجدد، عن تفاجئنا بمشاركة خبراء أجانب (مزدوجي الجنسية) في الوفد اإسرائيلي الذي فاوضناه حول المياه، فذلك أيضاً لا نصيب له من الصحة، والادعاء وليد أفكار شيطانية لا يمكن أن يصدر عن حريص على مصلحة البلاد أو على حمايتها. وللبرهان أقول: عملتُ في قطاع المياه منذ أيار 1973 وعرفت الخبراء الأجانب الذين عملوا فيه حتى في تواريخ سابقة (معلومات استقيتها من رئيسي المرحوم عمر عبدالله دخقان). وكان مع مؤسسة الروافد قبل مجيئي اثنان جنسيتهم باكستانية هم محمود حسن ترمازي الذي آثر أن يلتحق بالبنك الدولي بعد خدمته لدينا وخبير أخر ما لبث أن التحق بمنظمة الأغذية والزراعة الدولية في روما. ثم عمل معنا في سلطة وادي الأردن خبير ألماني هو الدكتور هانس فولتر ألماني من ملاك بنك التعمير الألماني (1982 – 1986) تلاه خبير ألماني آخر هو بيتر أولماير (1986 – 1998) من ملاك مؤسسة التعاون الدولي للتنمية، ولم يكن لأي من الخبراء أعلاه أي علاقة مع إسرائيل بل إن الأخير كان على رأس عمله في الأردن خلال حقبة المفاوضات. ورغم كل ذلك فإنني راغب بإعطاء هؤلاء الوطنيين الجدد فرصة لإفحامي بتسمية خبير واحد عمل في الأردن ثم انضم إلى الوفد الإسرائيلي المواجه لنا في مفاوضات المياه كما يروق لهم أن يعبثوا بسيرة الوطن.
3. ونقلت المواقع مقالة بقلم صحفية مرموقة ذهبت في نقد نتائج معاهدة السلام كل مذهب، وكأن الأردن، وليس الولايات المتحدة، هو المسؤول عن بدء عملية السلام في الشرق الأوسط! وللتذكير فإن الأردن كان آخر الأطراف العربية في موافقته على الانضمام إليها، وهو الذي ضحّى بنصف عدد أعضاء وفده الأربعه عشر كيما يمكّن الإخوة الفلسطينيين من المشاركة في مؤتمر دولي إذ هم بدون دولة. إذ ذهبت في مقالتها إلى حد الدعاء بأن المعاهدة ألزمت الأردن على تعديل قانون الأراضي كيما يسمح للأجانب التملك وبذلك، هكذا ادعت المقالة، أصبح مسموحاً للإسرائيليين تملك الأراضي في الأردن. وهذا ادعاء استغربه من صحافية أردنية مرموقة لأن فيه من الظلم المتعمد والخطأ الجسيم ما لا يمكن فهمه أو غفرانه.
وقانون الأراضي وتعديلاته المعمول به يقضي بالسماح للإخوة العرب تملك الأراضي بموافقة مجلس الوزراء، ويسمح كذلك للأجانب بالتملك شريطة المعاملة بالمثل أي أن التملك مشروط للأجانب بالسماح للأردنيين التملك في بلادهم بالإضافة إلى شرط الحصول على موافقة مجلس الوزراء. وحيث أن شرط المعاملة بالمثل لا يتوفر في إسرائيل فإن القانون لا يسمح للإسرائيلي تملك الأراضي في الأردن.
4. يطول الحديث عن باقي الادعاءات وجميعها خاوية، لكن الملفت للنظر توقيت هذا الترويج لها رغم بطلانها، والله عليم بما في الصدور. ولي من قول المقنع الكندي بعض العزاء:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ديونيَ في أشياء تكبُهم حمدا
إلى قوله:
أراهم إلى نصري بِطاءً وإن همُ دعوْني إلى نصرٍ أتيتهُمُ شدّا
فإن أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدا
سامح الله المدعين بغير الحق، وأثاب لهم رشدهم وهداهم سواء السبيل.