الرئيسية / كتاب الموقع / ظاهرة الإنتحار من منظور إجتماعي

ظاهرة الإنتحار من منظور إجتماعي

د.ميرفت السلامين

عند الحديث عن هذه الظاهرة أول ما تبادر إلى ذهني هو عالم الإجتماع (إميل دوركايم) عندما خصص كتاباً لدراسة ظاهرة الإنتحار وكان عنوان كتابه تحت مُسمى (الإنتحار)..

يرى دوركايم بأن ظاهرة الإنتحار هي ظاهرة إجتماعية بحته، وبما أنها ظاهرة إجتماعية لابد من تفسيرها إجتماعياً من خلال منهج سوسيولوجي واقعي وموضوعي.

بدأ بدراسة ظاهرة الإنتحار عام 1952، وركز في دراسته على دراسة علاقة الفرد بالمجتمع، لأنه يرى أن سلوكيات الأفراد يتم تشكيلها وصياغتها مُجتمعياً؛ أي أن العالم الإجتماعي المُحيط بالفرد له الأثر الكبير على تصرفات وسلوكيات الأفراد (حتى ولو كان قرار الإنتحار فعل شخصي ومحض) إلا أن المحيط الخارجي له الأثر على الأفراد وسلوكياتهم وأفعالهم.

يرى دوركايم أن المجتمعات تتطور وتمر بمرحلتين ففي المرحلة الأولى هي (المجتمعات التقليدية البسيطة) بحيث يكون فيها تضامن بين الأفراد والجماعات، ويربطهم رابط القرابة والدم بالإضافة إلى تجانسهم وتشابههم وتعاونهم من أجل تحقيق الأهداف المُتفق عليها، وتتسم العلاقات بالثبات والشخصانية، أما المرحلة الثانية هي (المجتمعات الصناعية الحديثة) القائمة على روابط تعاقدية ، والمشكلة هنا بالمجتمعات التعاقدية العضوية الحديثة، وذلك بسبب تغير الظروف الحياتية والمجتمعية، والتي هي في وضع مُضطرب وعندما يحدث هذا الاضطراب تظهر الأنومي أو اللامعيارية، كذلك يرى دوركايم أن الجريمة والسلوك المنحرف وضبطهما مسألة في غاية الأهمية وظيفياً، فهي تلعب أدواراً مختلفة تبعاً لنوعية المجتمع وعلاقاته (تقليدي بسيط مقابل صناعي حديث)، فالجريمة أوالسلوك المنحرف يلعب دوراً وظيفياً من خلال وضع مجموعة من المعايير والحدود لمعاقبة الجاني وأن هذه المعايير التي تصدرها الجماعة لمحاسبة الجاني هي إنعكاس لمعايير الجماعة.

لقد أختار دوركايم أغرب سلوك اجتماعي يُمكن أن يرتكبه الإنسان (الإنتحار)، ويرى أن هذا السلوك (الإنتحار) اجتماعي المنشأ وبناءً على ذلك وضع دوركايم الانتحار في أربعة مجموعات مختلفة، وهي :

1- الانتحار الأناني : وهذا الشكل من الانتحار ينتج عن ضعف علاقة الفرد بالمجتمع، واعتماده بشكل أساسي على نفسه وليس على الجماعة.
2- الانتحار الإيثاري : ويعني ارتباط والتزام الشخص بمجتمعه أكثر من التزامه بأهدافه الفردية، ومن الأمثلة على ذلك الاستشهاديين (في فلسطين ).
3- الانتحار اللامعياري: وهو عادة ما يحدث من خلال عمليات التغيير الاجتماعي السريعة والمفاجئة، ومن الأمثلة على ذلك (الحروب، الثورات، الأزمات الاقتصادية) .
4- الانتحار القدري: وهو الأكثر انتشاراً في مجتمعات الرق والعبودية، والتي يكون الضبط الاجتماعي فيها مُرتفعاً وقمعياً، ومن الأمثلة على ذلك (الانتحار في السجون).

وبإختصار يرى دوركايم أن الأنومي هي حالة أو شرط مجتمعي حيث تكون فيه المعايير غير قادرة أو فاعلة في تنظيم السلوك الإنساني، أي أنها تُصاب بالاضطرابات أوعدم القدرة على القيام بوظائفها .

أما بالنسبة إلى العنصر الاجتماعي للانتحار: فتحدث عنه بأن الحقائق الاجتماعية (الغير مادية) لها أثر على الأفراد الذين ينتحرون ويتأثرون بالظروف الخارجية (مثل الذين يشعرون بأحزان عائلية ويكابدون الفقر)، وأن المعدل الاجتماعي للإنتحار هو متغير (والدليل أن هناك ناس أغنياء ينتحرون)، وكذلك الباحثين بحثوا في البنية البيولوجية للإنسان مثل (النهك العصبي) وأن النظام العصبي غير مُهيأ للانتحار، لذلك يرى دوركايم أن المعدل الاجتماعي للانتحار لا يُفسر إلا سوسيولوجياً، فالبنية الأخلاقية للمجتمع هي من تدفع الناس للانتحار (فلكل جماعة ميل جمعي خاص بها)، مثل التيارات الأنانية والفوضوية التي تستحوذ على المجتمع الجمعي ( فالميول المشتركة للجماعة داخل الأفراد ) هي ما تدفعهم للإنتحار من خلال تعميق فكرة الانتحار، ويقول دوركايم أن الوسط الإجتماعي يتكون من معتقدات وأفكار الفرد وميوله المشتركة، وعندما يحدث إنتحار جمعي فانه يكون نابع من الميول الفردية، لكن العامل الأخلاقي متغير بحسب المجتمعات لأنها تفرض على الفرد شخصية معينه فيكون الفرد مستعد للتخلي عنها في سبيل الجماعة (وهذا ما يُسمى بالانتحار الايثاري).

وتحدث دوركايم أن هناك أسباب للإنتحار الفردي وتؤثر به، ومن أهم هذه الأسباب (طبيعة الفرد في المجتمع، طبيعة التنظيم الإجتماعي، الأحداث التي تعكر الحياة الإجتماعية ).

وبما أن المجتمع هو من يصنع الفرد، فهذا يعني أن القوة الجمعية هي التي تدفع للإنتحار وتؤثر به تأثير كبير كلما تقدم الفرد بالسن، ونتيجة ما سبق يمكن القول أن الشروط التي تدفع الفرد لبروز سلوك الإنتحار هي: (المجتمع، مدى الإستعداد الشخصي للفرد، عدم تأثر الفرد في وسط أخلاقي معين).

لقد حاول دوركايم أن يُوصل إلينا رسالة مفادها أن ملامح البناء الإجتماعي تُساهم بشكل مُباشر أو غير مباشر بظاهرة الإنتحار من خلال ربطها بمجموعة من المُتغيرات (الدين، الحالة الإجتماعية، الظروف الإقتصادية…)، ومن الأمثلة على نتائج هذه الدراسة أن مُعدلات الإنتحار عند الأرامل والمطلقين أكثر من المُتزوجين، كذلك مرتفعه عند الأشخاص الذين يعانون من أزمات اقتصادية أكثر من الأغنياء، وهي منتشرة بين المجتمعات التي تعاني من الحروب والأزمات أكثر من المجتمعات المستقرة بالتالي هي منتشرة بين العسكريين أكثر من المدنيين..الخ.

لذلك يرى دوركايم أن الإنتحار لا أخلاقي وشاذ، ويجب أن ننظر إليه كظاهرة من ظواهر الأمراض الإجتماعية، ولا يوجد مجتمع يخلو من الإنتحار، ووجود الإنتحار هو نتيجة للتشريعات التي تخلقها المجتمعات، والسبب هو تبعية الفرد القوية للمجتمعات، وإذا ابتعد الفرد عن النظام الأخلاقي لهذه المجتمعات فانه سينفصل عن الجماعة مما يؤدي إلى الإنتحار.

ومن حلول دوركايم لمواجهة هذه الظاهرة من خلال (تحسين التربية) أي من خلال الاستثمار والعمل على تطوير العقول (من خلال الأفكار والقناعات) وأن التربية الحسنة صورة عن المجتمع السليم، (والتربية الفاسدة) ناتجة عن الشعوب الفاسدة، أما بالنسبة إلى دور (الدين والعائلة) يرى دوركايم بأن الدين لا يمكن الإعتماد عليه (لأنه فقد الكثير من عناصره) لكبح ظاهرة الإنتحار، حتى العائلة لم يعد لها دور لأنها فقدت الكثير من أدوارها بالتثقيف والتنشئة والتربية خاصة بالمجتمعات الصناعية الحديثة، (وأن هناك قطيعة بين أفراد الأسرة) وانحلال الروابط الأسرية وانتقالها من الأسرة الممتدة إلى العائلة النووية .

كذلك يرى أن (النقابات العمالية والوظيفية) التي تُحفز النشاط المهني للحياة المشتركة، بأنها وسط أخلاقي تعمل على التلاحم والترابط لأفراد المجتمع، لذلك يجب إعادة صياغة النقابات وبنائها على قواعد مختلفة لكي تؤدي دورها الاجتماعي، ويتم تنظيمها من قبل الدولة وأن تكون مستقلة ويشعر المجتمع بحاجته إليها، هذا بالإضافة إلى تضافر (العوامل السياسية والدينية والعائلية والتربوية)، وتجديد وظائفها بإعادة وضعها في مكانها، بالإضافة إلى (العامل الإعلامي) لأنه يرى بأن له دور حاسم في صناعة الرأي .

على ضوء ما سبق: بالرغم من الحقائق الإجتماعية التي قدمها دوركايم عن ظاهرة الإنتحار إلا أن هذه الدراسة تبقى محصورة وغير شاملة، لأنه ركز على دراسة الظاهرة من خلال المجتمع وليس من خلال الأفراد (أي لم يدرس الشخص المُنتحر أو الفرد نفسه) بالإضافة إلى إهماله الجانب النفسي للفرد، أي كان تركيزه على الجماعة بدلاً من الأفراد (كدراسة شريحة معينة من الأفراد لها معدل إنتحار أعلى من الأخرى)، ومن هنا يجب أن يكون لدينا تظافر مابين (علم النفس وعلم الإجتماع) لتفسير هذه الظاهرة، ولا ننسى بأن هذه الدراسة تم إجراؤها بالمجتمع الغربي وليس بالمجتمع العربي، وهذا يعني الإختلاف الكلي بالقيم والعادات المجتمعية وطبيعة العلاقات الاجتماعية وطرق الضبط الإجتماعي ومكانة الدين بكل مجتمع.

وتبقى ظاهرة الإنتحار جزء من علم الجريمة الذي سُرعان ماتطوّر وأصبح علم مُستقل عن علم الإجتماع، بحيث أصبحت نظريات علم الجريمة مُتعددة العوامل والأسباب(الإجتماعية، الأيدولوجية، النفسية، الإقتصادية، الثقافية..).

والأهم من ذلك بما أن ظاهرة الإنتحار (قديمة/حديثة) ومن أجل دراستها والتمعن بها لا بد من دراسة الحالات التي وقعت عليها هذه الظاهرة للتعرف على الخصائص الديمُغرافية والإجتماعية للشخص المُنتحر، وعلى ضوء هذه الدراسة والبيانات التي تم جمعها لابد من الوقوف على أسبابها قبل وضع الحلول المقترحة، وقد تكون أسباب اقتصادية أو إجتماعية أو صحية أو ثقافية أو دينية.

في النهاية تبقى هذه الظاهرة مرفوضة تماماً لا يقبلها لا العقل ولا المنطق، ونؤكد ذلك بقوله تعالى(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) صدق الله العظيم، وبغض النظر عن الظروف التي يمر بها الشخص المُنتحر أو طبيعة المجتمع الموجود فيه يبقى السبب الرئيس هو ضعف الوازع الديني للشخص المُنتحر.