ايمع حليب

ايمع حليب نعم يا سادة ” ايمع حليب ” هكذا كُنا نسمعها من البائع , أو هكذا كُنا نظنها . مع أن البائع كان يقصد ايما على حليب وعلى طريقته الفنية في المناداة (ايما ع حليييييييب )تخرج من فمه ايمع حليب . ما زالت في ذاكرتي صورة ذلك الفتى ومعه ثيرموس (براد) وفيه الايما بألوانها الثلاث الأبيض , الأصفر , والبني ولكل لون طعمه الخاص . لم نكن نعرف اسم ذلك الفتى ولكننا كُنا نسميه بياع الايمع , وكان ظهوره في حارتنا شبه يومي أثناء العطلة الصيفية . كنا ننتظره ظهراً بفارغ الصبر لنبتاع منه ما قسمه الله لنا. بالنسبة للتسعيرة كانت إما بوري رفيع مخروطي الشكل أبو التعريفة أو بوري أبو القرش ويكون أعرض قليلاً . ذات يوم خطرت ببالي فكرة وهي أن أصبح أنا بائع الايمع وفاتحت الوالد بالموضوع ليشتري لي ذلك البراد أو الثيرموس . ودار الحوار الأتي بيننا :- أنا : يابا بدي تشتري لي براد وأصير أبيع ايمع والدي : ولك يابا هاي شغلة للطفرانين وبعدين بدك تعزر علي بين الناس أنا : ئي شو طفرانين , هاظ الولد بياع الايمع كل يوم بلم من حارتنا أكثر من عشرين قرش , وبعدين ما ببيع بحارتنا بروح أبيع بحارات ثانية والدي : يابا يا حبيبي هاظ القاروط بتلاقيه بشتغل طول الصيف مشان يصرف عحاله يوم تفتح المدارس أنا : شو بده يُصرف مهو الكتبات ببلاش والدي : هو مصروف المدرسة بس الكتبات , مهو يابا في عندك اقلام ومحايات ودفاتر وكسوة وغيره وغيراته . وبعدين هالمسكين بتلاقي أهله دازّينه على هالشغلة دز . ودوّر عليه بتلاقيه الحزين بتحسر يومنه يشوفكوا بتلعبوا وهو طول انهاره داير بالشموس من حارة لحارة . كالعادة كان ينتهي الحديث بيني وبين والدي والغلبة دائماً له, مع أنني لم أكن مقتنعاً بما يقول في غالبية الأحيان . بالأمس خطرت على بالي تلك الأيام وتذكرت بياع الايمع , ورحت أربط الأمور بعضها ببعض وقلت محدثاً نفسي : ما أروع أيام زمان , فقد كان الناس يشعروا مع الفقير ولا يزاحموه على لقمة العيش , فبائع الايمع عندما قررت أن أُنافسه في المهنة تصدى لي أقرب الناس ومنعني من ذلك . ربما والدي منعني لسبب اجتماعي ولكن بالمقابل بقيت حلبة البيع مفتوحة لمن هم بحاجة لها . أما هذه الأيام فحلبات البيع مزدحمة بمن هم لا يستحقون أن يكونوا عليها أصلاً , ليبقى من هم بحاجتها فعلاً خارج الحلبة يتضورون جوعاً ويتألمون حُزناً لا حول لهم ولا قوة . رائد عبدالرحمن حجازي