الرئيسية / كتاب الموقع / حجر الإثمِدْ

حجر الإثمِدْ

محمود فلاح المحادين

القصة القصيرة التي سأسمي مجموعتي القصصية القادمة عليها ان شاء الله وهي مجموعة من إثنين وعشرين قصة قصيرة متنوعة في اللهجتين العامية والفصيحة وطبعاً رسمة الغلاف ستكون لصغيرتي المبدعة (ميّ المحادين)

حجر الإثمِدْ

قصة قصيرة
محمود فلاح المحادين

انتهى حفل التوقيع وبقيت المهمة الأسوأ… توقيع الإهداءات للمعجبين، اعتدت كتابة بعض العبارات في الصفحة الأولى فوق العنوان، من عادتي ألا أوقع إيماناً مني بأن توقيعي ليس جميلاً وثأراً ممن سخر من توقيعي عندما كنت طفلاً … كنت أكتب اسمي الثلاثي مع عبارة أختارها عشوائياً من ذاكرتي فأنا على الأغلب لا أعرف من هو الشخص الواقف بإنتظار نسخته من الرواية التي حققت أعلى نسبة مبيعات بحسب عدة احصائيات…فتحت إحدى النسخ أمامي وبدأت بالكتابة:الفعل هو عبارة عن نواة مركزية محاطة بمجموعة من القشور…

فجأة أكملت الفتاة التي كانت واقفة في الصف:كلما أزَلت قشرة اقتربت من ارتكاب الفعل وهو شيء ستكتشف فيما بعد أنه غير ممتع…اكتفِ بمداعبة القشور وابتعد عن (سلخها)بحركة واحدة…

اعتدت كون بعض المعجبين يحفظون اقتباسات من كتبي ولكن نبرة الصوت أجبرتني تلقائياً على الإلتفات نحو مصدره… وهذا ما فعلته

هناك نوع من القرّاء يمكن تصنيفهم بالمختلين وذلك لأنهم يستمرون بالقراءة لكاتب واحد حد الهوس… حدّ ترك حياتهم الواقعية وتقمص شخصيات كاتبهم المفضل وقد يصل بهم الأمر للإعتقاد بأن هذا الكاتب قد التقى بهم في زمن آخر وربما ربطت بينهم علاقة ما في ذلك الزمان لذلك فهو يكتب عنهم في كل شخصياته… أغلب هذه العلاقات الوهمية تنتهي نهاية مأساوية فالمعجب يكون متردداً من القيام بأي تجربة لكشف حقيقة هذه العلاقة لخشيته أن تصعقه الحقيقة والكاتب يستمر بممارسة كتابته وخلق شخصيات يصدف لأجل حظه السيئ أن تتقاطع مع تجارب هذا المعجب… أقصد بالمأساوية أن يلتقيا…

كنت أعتقد أن هذه الفتاة واحدة من هذه المهووسات وللتأكد من ذلك اختلقت عبارة فورية لم يسبق لي استخدامها في أي من كتبي بالرغم من علمي أن هذا التصرف الذي أقوم به للمرة الأولى خلال حياتي الأدبية سيؤخر الطابور الطويل الممتد لأمتار لعدة دقائق أخرى… قلت متجنباً جعل الأمر يبدو كتحدٍ:كما أن الملابس الجميلة لا تخبرك شيئاً عن ثقافة مرتديها…قاطعتني قائلةً:فإن الأسوار الجميلة لا تخبرك شيئاً عن حزن الساكنين خلفها!

مع أنني لم أرغب بأن يصبح الأمر ملفتاً للأنظار إلا أنني وجدت نفسي أبتسم لها قائلاً:يبدو أنك قارئة مميزة! بل ربما أنت مثقفة! ردّت بسرعة:الثقافة هي كل شيء يستطيع إخراجك من المآزق بأقل الخسائر…ولأن الكتب وحدها لا تنقذك من المآزق فعليك أن تبحث عن الثقافة في أمكنة أخرى!

-وهل أنا في مأزق؟
-هل تشعر بأن عليك أن تهرب؟
-إن ألم الفِرار من أرض المعركة أشدّ من ألم الإصابة الجسدية في إحدى جولاتها…علمآ بأن كلاهما باقيين مدى الحياة…
-هل أنت من القارئات التي ربما أكون قد أسأته لها في مكان ما وسط كتبي؟ ربما تكونين احدى المدافعات عن حقوق المرأة؟ هل تحملين نحوي أي مشاعر كراهية؟
-اعلم أنك إذا لم تقدّم لعدوّك سوى الكره,فأنت تُعَبِّد له نصف الطريق لهزيمتك…
-من الغريب أن أعظم الأفكار تتطلب منا سذاجة التسليم بمفاهيم بسيطة…ولكن لا أحد وسط الملحمة يلتفت بأن المطلوب هو فقط إبتسامة…
-هل تؤمن بأن الإبتسامة قد تكون جسراً يوصلنا إلى من نحب؟!
-الجُسور تُمدّ فوق الموائع،على أن تكون أطرافها مثبتة فوق قوالب متينة….علاوة على أن الفراغ ليس مائعآ،فإنك تحاولين مدّ جسرٍ فوق أطرافٍ مطاطية….
-لا شيء أسوأ من أن تكون أحلامنا عصيّة على التحقيق،سوى أن يكون تحقيقها متعلقاً بإمتلاك المال…
-الأمر الوحيد الذي لا يثير انتباه من احترف ملاعبة الحروف! على الأغلب أنت مصابة بإدمان اصطياد الفرائس المستحيلة
-عندما نصادف بعض المشاعر ونجد أنها لذيذة نكتشف أن حياة واحدة لا تكفينا لتجربتها جميعاً…لأن الصدفة تعني إختيارك دون غيرك،والإختيار لن يقع عليك دائمآ…
-وإذا اكتشفت أنه وقع عليّ يجب أن احسن ضيافته… لذلك أقترح أن نكمل هذا الحوار في الخارج لأنني سأفض هذا الحفل التنكري… أشعر برغبة بإكمال هذه الليلة بوجهي الحقيقي…

لم أنتظر لأرى ردود الأفعال على الحاضرين ولم أكترث لما ستقوله عني الصحف في اليوم التالي فهي بجميع الأحوال لم تكتب الحقيقة يوماً ولطالما تاجرت بمشاعري وأعمالي لتحصد الأرباح وستتخلى عني في اليوم الذي ستتراجع فيه مبيعاتي…سرنا مبتعدين عن الزحام

-لا تبدو في الواقع مثل سامر!
نسيت للحظة أنني كتبت خمس روايات كان بطلها جميعاً سامر
-وهل جئت لحفل التوقيع اعتقاداً منكِ أنك ستقابلينه؟
-هل أنت سامر؟
-هل الأمر متعلقٌ بالإسم؟عندما نتقدم في السن نعتقد أن أسمائنا تخلت عنا ولكن الحقيقة أنها لم تعد تليق بنا…وفي الحالتين صار لزاماً علينا أن نغيرها…
-اذن أنت تختبئ خلف اسم سامر فقط؟!
-سامر شجاع ومرح ومغامر ومقدام ووسيم وسعيد ككل أبطال الروايات الأكثر مبيعاً فهل أبدو كذلك؟
-تتحدث بعقله ولكن بقلب شيخ طاعن في السن!
-عندما يشيخ القلب يصبح حزينآ لكنه لا يتوقف عن ضخ الدم لأنه يعرف أنها وظيفته التي خلق من أجلها…
-أنت مجرد طفل! كيف تستطيع أن تقسو على نفسك بإخفاء كل هذه الطفولة خلف شخصيات لا تشبهك! لماذا لا تكتب كالأطفال؟! لماذا تكذب علينا؟
-ليتنا كالأطفال نؤمن أنه عند إقترافنا للجريمة سيكون أحد والدينا أقل قسوة…
-كن وردة قبل أن تبدأ بإهداء الزهور…فنصف بريق الوردة في شذاها والنصف الآخر ما علق بين بتلاتها من أصابع قاتلها…
-أؤمن بأن الحزن لي وحدي…أقسمه على أجزائي المختلفة:روحي،جسدي،خيالي في المرآة…أما السعادة فحري بي أن أتقاسمها مع الأخرين حتى تتضخم وتتكاثر…
-ولكنك تحلق خارج السرب! هذا عزف منفرد!
-العزف المنفرد لا يكون دائمآ نشازآ…ولكنه دائمآ تمرد على قائد الجوقة…
-أنت تحاول ارضاء الجميع وهذه مهمة مستحيلة!
-من قال أنني لا أستطيع إرضاء جميع الناس؟؟هم صنفان:صنف ينتظر هزيمتي،وصنف يراقب ذلك…وأستطيع أن أقدم لكليهما ما ينتظر…
-سامر ليس عنيداً إلى هذا الحد!
-أخبرتك أن سامر مجرد زائر يأتيني مساءً، أعطيه أقلاماً مليئة بالحبر وأتركه وحيداً حتى الصباح حيث أجمع الأقلام الفارغة والأوراق الممتلئة بالهراء والتي أجدها كل يوم في مكان مختلف في الغرفة…
-ألا تراجعها؟ هل أنت مستسلم له إلى هذا الحد؟!
-أنا أمدّه فقط بالطعام والشراب، الحق…الخير…الجمال…مصطلحات تحتاج إلى(فم)على الأقل للنطق بها….لذلك فهي بلامعنى دون(الإنسان)!! والإنسان لا يستطيع أن يفكر وهو جائع…
-ماذا عن القيم والمعتقدات والمبادئ؟
-هي الأرض التي تطأ عليها بقدمك كي لا تُصاب برعب الحقيقة! أن لا تجد قدمك أقل رعبآ من أن لا تجد أرضاً تضع عليها قدمك…
-سامر! أو أيّاً كان اسمك فأنا بعد هذا الحوار لم أعد أعرف من تكون:لا تتعلم الشر…لأنك ستجده يوماً مخرجك الوحيد…
-من لم يرتكب جريمة وهو في السابعة عشر من عمره، هل سيرتكبها وقد بلغ الأربعين؟
-ما أسهل إرتكاب الجريمة على ابن الأربعين أو ابنته…لا أظن أنك أقل تهوراً وجرأة من أبناء السابعة عشر،،،بل أنت أشد خطراً! أنت تمتلك أسلحة أكثر…وأشد فتكاً… يكفيك قلمك لإرتكاب أبشع الجرائم!
-تُرى لو إستطاع أحدنا أن يجمع الحروف المتساقطة مع قطع الممحاة التي نبعثرها بأنفاسنا المتتالية السريعة كي لا تلتقي،ماذا سيجد؟!
-سيجد كل ما لم نتجرأ على كتابته ولكنه ربما يجد أيضاً الكثير من الحب؟
-وماذا بعد الحب؟؟
-يبدو من عبارتك هذه أن علاقتنا لن تستمر لأنني كنت أقول لك دائمآ:لدي الكثير مع الحب…أنت إعتبرته مرحلة وأنا إعتبرته حياة!
-كنتِ تقولين دائماً؟؟؟
-يبدو أنك حتى الآن لم تعرفني!! لا لوم عليك فقد تنكرت قبل قليل لسامر فهل ستتذكر مجرد شخصية ثانوية في روايتك الأولى؟

نزلت الدموع من عينيها مشكلة نهرين أسودين من الكحل الذي نسيت أنني كنت أطلب منها أن تضعه كلما التقينا! وقبل أن أدرك حقيقة ما جرى قاطعتني قائلة:هل يمكن أن أخالف المعتاد وأذكر الكاتب بإقتباس ذكره في مكان ما؟ ((غالباً ما يرافق الثواني الأخيرة للكارثة غفوة!!تحمينا من مواجهة شعور الألم الدحقيقي…كل ما نعانيه فيما بعد هو جراء محاولة تذكر ما حدث أثناء الغفوة وهو ما يستحيل فعلياً وعقلياً وروحياً…))