الرئيسية / كتاب الموقع / مصادر مياه الشرب في الرمثا في الخمسينات

مصادر مياه الشرب في الرمثا في الخمسينات

من سلسلة ذكريات الرمثا العتيقة

مصادر مياه الشرب في الرمثا في الخمسينات وما قبل

الدكتور سعيد البشير

لم يحبُ الله سبحانه وتعالى الرمثا ، هذه البلدة التي تقبع على الحدود الشمالية للاردن بين سوريا والاردن ، والتي كانت تعتبر البوابة الشمالية الرئيسية للأردن . لم يحْبُ الله جلت قدرته هذه البلدة بمصادر مياه طبيعية كالانهار والينابيع والعيون الجارية ، باستثناء ” عين الشلالة ” التي تبعد عن المدينة اكثر من اربعة كيلومترات . ولذلك كان أهل الرمثا في أوائل الخمسينات وما قبل من القرن الماضي يعانون من شُح مياه الشرب معاناةً شديدة . ولذلك فقد حفروا آبار الجمع في السهول القريبة وساحات البيادر المحيطة في البلدة لتمتلئ بمياه الامطار في فصل الشتاء . وكان لكل عائلة رمثاوية بئراً خارج حدود المساكن ، وفي مكان نظيف بعيداً عن عبث الاطفال والاوساخ ، وبئراً آخر داخل فناء الدار او أيّة

ساحةٍ مجاورةٍ لها يملكها صاحب الدار . ومياه هذا البئر كانت تستخدم للاستعمالات الشخصية ، كالاستحمام والغسيل والشطف ، وسقاية الحيوانات التي كان السكان يقتنونها كالبقر والماعز ودواب النقل .

وبئر الجمع يُحفر بواسطة عمال حفر متخصصون بذلك . ويستخدمون لأجل ذلك أدوات يدوية بدائية كالفأس ( المعول ) والمهّدة وهي مطرقة ضخمة يصل وزنها الى اكثر من خمسة كيلوغرامات مصنوعة من الحديد الصلب ، واداة أخرى تسمى ( النُخل ) وهو عبارة عن قضيب مبروم مصنوع ايضاً من الحديد الصلب ، وطرفه الاسفل مشطوف مثل حدّ السكين ، ليتمكن عامل الحفر من غرسه في الصخر . وهناك ادوات أخري لا مجال لذكرها .

ويُحفر البئر على شكل حبة الكمثرى ( بئر انجاصة ) ، يبلغ قطر باب البئر من الاعلى حوالي متر ومن الاسفل حوالي خمسة امتار ، وارتفاعه خمسة امتار ، وهناك ابار اكبر من ذلك وآبار أخرى اصغر وكانت تُدعى ( جيعة ) .

ولا يزال هذا النموذج من الآبار يُحفر الى الآن .

وبعد الانتهاء من حفر البئر يأتي دور ( المُشيّد) الطيان او القصيّر ، اذكان المُشيّد يقوم بتشيّد البئر من الداخل ( بالشيد والرمل الناعم ) أي الكلس والرمل الذي كان يجلب من قاع الوديان ، فلم يكن الاسمنت حينها يستعمل لقصارة البئر ، وذلك لأنّ البودرة ( رمل الكسارات الناعم ) التي تستعمل للقصارة اليوم كانت غير معروفة آنذاك . وهذا القصيّر ( المُشيّد ) متخصص بقصارة (تشيّد ) هذه الابار . وهناك عائلة بالرمثا متخصصة بذلك وهي عائلة ( المرايعة ) . وبعد تشيّد البئر يجلب اربع ( قطاعيات ) أي اربعة احجار يبلغ طول الحجر الواحد اكثر من متر ، وسماكة اربعين سنتمترا ، وعرض خمسين سنتمترا ، وذلك من أجل عمل ما يُسمى (الخرزة ) لكي يوضع عليهاب غطاء البئر . كما يُعمل فتحة ٣٠*٣٠ سم في احدى جوانب الخرزة من الاسفل تُسمى (السكر ) لكي تدخل من خلالها مياه الامطار ، حيث يحفر قناة صغيرة بجوار البئر لجلب مياه الامطار الى السكر .

في فصل الشتاء يمتلئ البئر بماء المطر ، وخاصةًعندما يكون الموسم المطري جيد . تبدأ النساء والصبايا ترد الأبار لجلب ميه الشرب الى المنازل .

كانت بعض الاسر والعائلات لاتملك آباراً لجمع مياه المطر لأغراض الشرب والطبخ ، وذلك لأنها لا تمتلك قطعة ارض خارج جدر البلد لتحفر لها بئراً فيها ، فكانت نساء هذه العائلات تنتظر ذهاب الورادات من اصحاب الآبار ، ويلحقن بهنّ لجلب المياه من آبار هؤلاء . ولم يكن ذلك يغيض هؤلاء النساء من اصحاب الآبار ، لا بل كان ذلك من دواعي سرورهنّ .

كانت الورادات ( الملايات ) من الصبايا غير المتزوجات يرتدين أجمل ما لديهنّ من ثياب ، لتبدو الصبية بأبهى زينتها ، وكأنها ذاهبةً الى فرح . وبالمقابل كان الشباب العزاب يرتدون أجمل ما لديهم من ملابس ويستعرضون أمام هؤلاء الصبايا ، ولكن عن بعد ، لعلى احدهم يجد صبيةً تعجبه ليخطبها . والجدير بالذكر كانت الصبايا الورادات يردن الآبار عصرية اي عندما تخف وطأة الحرّ ويحلو الجو ، وكأني بهن يرددن هذه الاغنية :

غزلان الندى حولت تشرب وين النشاما اليتقنصوّنا

ومن اشهر آبار الجمع واكبرها بير ( ابو بابين ) يقع في الحارة القبلية ، وسمي ( بأبو بابين ) لأنه لاتساعه كان له بابان أي فتحتين من الاعلى . ويقال عنه انه كُفري أي محفور أيام الروم البزنطيين . كان لهذا البئر حرم ساحة تبلغ حوالي دونمان تقع شرقي دوار سليمان الخالد الشقران ( المستحي ) . كانت تعود ملكية هذا البئر لفخذ ( دار بشير ) من عشيرة الشقران ، وهو لا يزال موجود على حاله في ساحة منزل عمي محمود البشير الشقران . كان لسعة هذا البئر الكبيرة من الماء يكفي نصف سكان الحارة القبلية ، اضافة الى حاجة دار بشير من الماء .

ومن الآبار المشهورة ايضاً في الرمثا في ذلك الزمن وعلى ماكنت اسمع ( بير الطيّ ) الذي كانت الصبايا يتغنينّ به :

على بير الطيّ لاقاني ولاقايته على بير الطيّ

والبير (الغربي ) الذي كانت الصبايا يتغنينّ به ايضاً:

عالبير الغربي ياابو بلاطة بالله ما وردك ثلاث زباطة

واحدة توفية واحده جُقلاطة واحدة تخابر عتلفونا

ولعله من المفيد ان نذكر انّ في آوائل الخمسينات وما قبل ، كانت تأتي مواسم مطرية شحيحة ، فلا تمتلئ الآبار ، فكانت تنضب في فصل الصيف ، مما يضطرّ سكان الرمثا اللجوء الى عيون ماء ( المحاسي ) ، التي تبعد عن البلدة حوالي اربعة كيلومترات الى الغرب من طريق الطرة ، لجلب مياه الشرب الى منازلهم .

كان هناك عين كبيرة او بئر ماء نبع كبير ، كانت البلدية قد حفرته لهذا الغرض

يسمونه ( عين الدولة ) . كانت النساء الورادات يتزاحمنّ على هذا البئر ، ويصل فيهنّ الامر الى التشاجر والتقاتل على باب البئر من اجل الدور ، مما اضطر رجال عشائر الرمثا للاتفاق على ان تقوم كل عشيرة بحفر عين ماء ( عين صغيرة ) بعمق لا يتجاوز ثلاثة امتار ، فيخرج منها الماء • فأصبح لكل عشيرة عين ماء تُسمّى باسمها . كانت النساء والصبايا الورادات ينقلن الماء من موقع المحاسي الى بيوتهنّ على ظهر الدواب . وسيتخدمن في ذلك ما كان يّسمى (بالسواطر ) ، والساطرة عبارة عن لوح من حديد الصاج ، يصنعها الحداد على شكل حرف L ، والسواطر مؤلفة من ساطرتين تربطان ببعضهما من الخلف بحبل متين على قدر (جلال الدابة) ، فتقوم الملاية بوضع السواطر على ظهر الدابة ، ثم تضع تنكتي ماء في كل ساطرة فيحدث توازن . واحياناً تضع الملاية تنكةً خامسة على ظهر الدابة لزيادة الفائدة او لكي تعطيها لجارتها التي لا تستطيع ان ترد الى عيون المحاسي . اما النساء اللواتي لا يملكن دابةً او ظهراً تنقل عليه الماء ، فتضطر لحمل تنكة الماء على رأسها وتسير كل هذه المسافة . تصوروا معاناة المرأة في هاتيك الايام .

في عام ١٩٥٣ على ما اعتقد ( والي عنده تاريخ ادق ارجو ان يذكرني ) قامت بلدية الرمثا بجرّ مياه عين المحاسي ( بعد توسيعها وزيادة عمقها ) الى البلدة بواسطة الانابيب ، وأنشأت لأجل ذلك وفي اعلى مكان في الرمثا على ( تلّة الكيال خزاناً كبيراً ( حاووز ) لا يزال ماثلاًللعيان . فأصبحت النساء تجلب مياه الشرب من هذا الخزان . وبعد ذلك قامت البلدية بمدّ شبكة مياه لجميع احياء الرمثا . واصبحت مياه البلدية ( المحاسي) تصل الى معظم بيوت الرمثا . وارتاحت النساء من عناء نقل المياه من الآبار ومن خزان البلدية •

الى اللقاء في موضوع آخر من سلسلة ذكريات الرمثا العتيقة ، ودمتم جميعاً بالف خير .

ملاحظة هامة :

في الستينيات من القرن الماضي وفي عهد حكومة رئيس الوزراء المرحوم وصفي التل ، تمّ جرّ مياه الزعتْرِي الى محافظة اربد والرمثا بواسطة الانابيب التي تنقل كانت النفط من العراق الى مدينة حيفا في فلسطين قبل ال ٤٨ حيث تم قطعها اثنا الحرب . فأصبحت الرمثا تشرب الماء من مصدرين : المحاسي والزعتْري .

2 تعليقات

  1. د. معتصم درايسه

    تسلم دكتور سعيد على هذا الوصف الرائع والدقيق وهذه الذاكرة النشطة وتجلياتك في رسم صورة جميلة تنبض بالحياة لما كانت عليه مصادر الماء في الرمثا العتيقة والمعاناة التي كان اهل الرمثا يعانونها للحصول على الماء للشرب وللأغراض الحياتية الأخرى.
    ننتظر بتلهف الحلقة القادمة، ودمت بخير.

  2. فيصل الدردور ابو عامر

    جزاكم الله خيرا كثيرا دكتور سعيد . أحسنت كثيرا . الآن الحمد لله والشكر لله الماء والكهرباء والمحروقات متوفره . وهذا من فضل الله وبركاته . أيام اول بركه لاكن صعبه أنا أذكر سنة 1970 كنت بالصف الأول الرمثا كانت كلها حجر وطين . قليل جدا جدا كم دار حجر . دار علي العايد السماره وأخو جدي محمد الحسن المياس هذا ما اذكره . دائما وابدا الحمد لله والشكر لله بالماضي والحاضر والمستقبل