الرئيسية / كتاب الموقع / وسواس التكديس القهري في نسخته الأحدث

وسواس التكديس القهري في نسخته الأحدث

د. ربا زيدان

أتمنّى لو لدّي الوقت الكافي لقراءة جميع الكتب التي أقوم بشرائها باستمرار.. أو أن أتفقد جميع المقالات التي خزنتها بهيئة book marks على متصفح الانترنت الخاص بي لئلا يفوتني شيء..

“سمعت عن هذا العمل الجديد على Netflix من أكثر من رفيق، سأقوم بتحميل الحلقات لمشاهدتها حين أجد الوقت الكافي لذلك… ”
” أعلم أن ذاكرة هاتفي المحمول في تناقصٍ مستمر، لكنّي أستمر في الاحتفاظ بجميع الملفات التي أرسلت لي منذ أعوام..”

هل تذكرك هذه التصرفات بما تقوم به في حياتك اليومية؟ ..

في حال أجبت بنعم، فأنت بصورة أو بأخرى تُظهر أعراضاً مشابهة لأعراض للتخزين القسري الكلاسيكيّ في نسخته الرقمية الحديثة، أو ما بات يعرف بالاكتناز الرقمي.

إن أعراض صعوبة الاستغناء هذه، والرغبة المحمومة في حفظ العديد من الملفات البصرية والصوتية والمقروءة ما هي إلا امتداد متطور لما يعرف بمتلازمة الاكتناز القهري والتي تعد اضطرابا نفسيا بصورة أو بأخرى.

لطالما توجهت باللوم المشوب بالفكاهة لجدتي الراحلة والتي كانت تحتفظ بالعلب البلاستيكية الفارغة بعد غسلها في حال احتجنا يوما إليها (ولم نفعل) أو وجدتني أبدأ بشمّ جميع قطع الثياب الخاصة بي مرارا وتكرارا واستذكار جميع المناسبات التي ارتديت فيها تلك القطعة أو غيرها قبل أن أقرّر الاستغناء عنها، إن حدث وأقنعت نفسي بضرورة ذلك.

واليوم، أجدني أميل أحيانا لأن أفعل الأمر ذاته مع ما يصادفني من محتوىً رقمي أخشى أن يفوتني لإيماني بأن عليّ الاطلاع عليه. أخزّن المقالات التي لم يسعفنِ الوقت لقراءتها وأحتفظ بصور العائلة القديمة ورحلاتي السابقة ووجوه رفاق الدراسة والعمل، وحتى للقطات فناجين الشاي والقهوة التي رافقتني في كل مطار.

هل تبدو الأعراض كلاسيكية؟.
من أين يأتي اضطراب التخزين هذا، وكيف تسلّل إلينا من حقب التكديس القديمة، ولماذا يعزّ علينا التخلّص من الأوراق والوثائق والرسائل والصور القديمة التي لم تعد تعنينا بل أن بعضها على العكس قد ينكأ جروحا اعتقدنا أنّا تجاوزناها؟..

يتجلى الاكتناز القهري اليوم بصورته الرقمية في مظاهر عديدة تشبه ما ذكر، قد يظهر مثلا في احتفاظنا عدم المبرر في الكثير من الأحيان بصورٍ لدينا منها أكثر من نسخة، أو ملفاتٍ صوتية أو مقاطع فيديو تكتظّ بها هواتفنا الذكيّة ولا يسعنا أن نحمل أنفسنا على التخلّص منها بسهولة، نعتقد أن تخزينها سيسعفنا حين تظهر الحاجة لها.

لكن ماذا عن قدرتنا الفعلية على استرجاع ما نريده من معلومات وملفات رقمية بسهولة وسرعة ويسر في حال وجدنا أنا في حاجتها فعلا؟.

أهي النوستالجيا لا نستطيع منها فِكاكاً أم عقلية الندرة التي تدفعنا للتشبثّ بما بين أيدينا خوفا من أن نحتاجه يوماً ولا نجده؟، وكيف تسللّ هذا الاضطراب النفسي الكلاسيكي لذواتنا الرقمية الحديثة؟.

يبدأ الاكتناز الرقمي عندما نصبح عبيداً للمحتوى الرقمي الذي نملك أو نُنتج أو حتى نُصادف، تغدو عملية التخلص من صورنا وملفاتنا الصوتية وحتى محادثاتنا الالكترونية عملية قهريّة، تُشعرنا بالضيق والاختناق، ويغدو الأمر أكثر صعوبة حين تربطنا علاقة عاطفية بما يجب علينا التخلص منه.

صور ٌ نذكر تماما متى وأين التقطت.. وضحكات رقمية سجلّت نبضاً نذكر جيداً كيف تسارع ولماذا.. وفيديوهاتٍ تحمل ملامح من غادرونا ولم يتبق لدينا منهم إلاّ صوتٌ وصورة وحروف تحملها شاشات التطبيقات التي وثّقت حياتنا معهم.

كيف يمكن إذا الّا نجد صعوبة في محو ما نعتقد أنه نحن؟ أنه حياتنا.
يظهر الأشخاص الذين يعانون من اضطراب التخزين الرقمي العديد من الأعراض المرضية. قد يشعرون بالارتباك والتشتت عند محاولة تنظيم الملفات والمجلدات، ويجدون صعوبة في تحديد البيانات المهمة والقابلة للاسترجاع في وقت لاحق. قد يكونون أيضا ميالين لتجميع المزيد والمزيد من المحتوى الرقمي دون أن يفكروا في حجم التخزين المتاح لديهم، مما يؤدي إلى امتلاء أجهزتهم وبطء أدائها مما يؤثر على عملهم وبالتالي على إنتاجيتهم.

في المرّة القادمة التي تجد في بريدك الالكتروني أكواماً من الرسائل البريدية غير المقروءة وحين يعجّ هاتفك بعشرات الصور التي تستجلب مواطن الألم لا البهجة وحين تُقرّر أخيرا ً الاستغناء عن مسوّدة روايتك المتوقفة منذ سنوات وشطب الملفّات التي تُذكرّك بعجزك عن إتمامها.. توقف وتأمل الاعراض. هل أنت مهووسٌ بالتخزين؟ .

وفي اللحظة التي تنقر فيها على أمر الحذف تذكرّ أنه فعلٌ شجاعٌ.. وصحيّ ومرغوب حتى لا تقتلك الذكريات.. ولا يفتك بك عالمك الرقمي.