الرئيسية / كتاب الموقع / ديمقراطية التطهير العرقي

ديمقراطية التطهير العرقي

د. صباح حراحشة
أمام جبروت وجشع شركات تصنيع الأسلحة التي تحرك المشهد السياسي العالمي من خلف ستار، وتنتقي خدامها لتحركهم كدمى مسرح العرائس في مسرحية ممجوجة جاوزت كل حدود الظلم وعرّت أكذوبة حقوق الإنسان، نقف مشدوهين نراقب نفاق العالم الغربي الذي يدعي أنه يمارس حرية الإعلام، في حين أنه يمارس تضليل شعوبه خدمة لرأس المال وللصهيونية القذرة التي سخرت كل شيء لخدمة أساطيرها المقدسة المزعومة.

يقدم الإعلام الغربي حكايتنا للعالم من منظوره المنحاز لخدمة أسياده، ويؤثّر على الرأي العام العالمي بطريقة مدروسة شكلت صورة العرب (والمسلمين تحديدا) في أذهان المتلقين، داخل إطار بشع يضم الإرهاب والتخلف والثراء الفاحش واضطهاد المرأة وغيرها من الصور المنفرة التي أصبحت تشكل فكرة العالم عن الإنسان العربي. الخطير في الأمر أن هذه الصورة تشكلت بحرفية عالية رافقتها حقائق تم تصنيعها أيضا بحرفية عالية كالتنظيمات الإرهابية التي مارست أبشع أشكال الإرهاب من حرق وتقطيع رؤوس وتدمير لكل أشكال التاريخ والحضارة تحت صيحات “الله أكبر”، والآن يتم استغلال صورة هذه التنظيمات ببراعة للخلط بين مفهومي الإرهاب والمقاومة المشروعة لكسب تأييد الرأي العام العالمي لمحو حركات المقاومة على اعتبار أنها لا تختلف أبدا عن المنظمات الإرهابية، وما كان ظهور أكذوبة الأطفال مقطوعي الرؤوس مصادفة، بل هي وسيلة “لدعشنة” المقاومة -إن صح التعبير- لتبرير محوها بوحشية من قبل الصهيونية على مرأى ومسمع من العالم، وبذلك تمارس أميركا وإسرائيل إرهابهما تحت مسمى بطولة تخليص العالم من الشر بينما يصفق لهما الرأي العام المُضلَل حد الإشباع والجاهز لتقبل رواية الصهيونية.

الإعلام العربي جلس متفرجا على هذا المشهد، متناحرا كالعادة تحركه سياسات الدول العربية التي اتفقت على ألا تتفق أبدا، لذلك لم يكن هناك جهد عربي حقيقي مشترك لتغيير الصورة النمطية عن العرب ولا حتى لتقديم قضايانا للرأي العام العالمي من منظورنا نحن وحسب الحقائق الفعلية على الأرض، وتركنا الفرصة كاملة للإعلام المنحاز ضدنا ليشكل صورتنا كما يشاء وليروي حكايتنا كما يشاء وتشاء الصهيونية العالمية.

لن أقف عند حد تشخيص المشكلة دون اقتراح الحلول لها، والحلول التي سأقدمها هي حلول إعلامية قد تساعد الإعلاميين في صياغة خطاب عربي موحد قادر على الوصول لضمير العالم لمحاولة تغيير الصورة النمطية عن العرب والمسلمين ولمحاولة تقديم قضايانا ولكن بلغة يفهمها العالم تستند على مبادئ إنسانية اتفق العالم كله على صحتها، كمفهوم الديمقراطية، ومفهوم حقوق الإنسان مثلا، الديمقراطية حسب الفيلسوف “توكفيل”، تكفل للجميع المساواة وتكافؤ الفرص، دون اعتبار للعرق أو الدين، وتُبْنى على أساس الفصل بين السياسة والحكم من جهة وبين الدين من جهة أخرى، مع إيجاد مجتمع مدني قوي، لا يعترف بسيطرة الأكثرية فقط، وإنما يعمل أيضاً على كبح قوة الأكثرية من أجل الدفاع عن حقوق الأقلية.

هذا المفهوم للديمقراطية المتعارف عليه عالميا، يتناقض بشكل فاضح مع التعريف القانوني الإسرائيلي لطبيعة وطابع دولة إسرائيل، إذ تم تحديد الطبيعة “اليهودية” للدولة منذ ما يسمى بإعلان استقلال إسرائيل لعام 1948، وتمت إضافة الشخصية “الديمقراطية” في تعديل القانون الأساسي في العام 1985 (التعديل 9، البند 7 أ).

الغريب في الأمر هو كيف تم الجمع بين هذين المصطلحين المتناقضين واللذين يعبران عن هويتين مختلفتين لدولة بنيت على أساس هش ومتناقض في الأساس. إذ كيف تقدم دولة نفسها على اعتبار أنها ديمقراطية ودينية في ذات الوقت؟ ألا تتبنى الدول الديمقراطية مبدأ حرية الاعتقاد ومبدأ المساواة بين جميع مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية؟ التطبيق العملي على الأرض لهذا المبدأ هو لصالح تفضيل اليهود في كل المجالات، ابتداءا من اعتبار غير اليهود مواطنين من درجات دنيا (هذا على فرض أنهم مواطنون أصلا)، وما قد يترتب على ذلك من عدم تكافؤ الفرص التي تقدمها الدولة لمواطنيها وفي كل المجالات، مرورا بسلب الفلسطينين حق تقرير المصير، وصولا إلى الممارسات العنصرية الصارخة ضد الشعب الفلسطيني والتي يقف جدار الفصل العنصري شاهدا عليها على مرأى ومسمع من العالم (المتحضر) الذي احتفل في القرن المنصرم بهدم جدار برلين، والذي لا يزال يتحدث عن جرائم النازيين ومحارقهم ضد اليهود، بينما يغلق عينيه ويصم أذنيه عن المحارق والمجازر التي يرتكبها اليهود، إضافة إلى جرائم الحرب البشعة التي يمارسها هذا الكيان حاليا على نساء وأطفال ومدنيي قطاع غزة دون أي اعتبار للقرارات الأممية أو مواثيق حقوق الإنسان الدولية التي يتغنى ويتشدق بها العالم الغربي (المتحضر).

تدّعي “إسرائيل” بأنها واحة “الديمقراطية” في صحراء الاستبداد العربي، تؤيدها بذلك أميركا وغيرها من داعمي هذا الكيان المارق الخارج على القانون وغير الأخلاقي أيضا، والذي يخفي عيوبه عن طريق إظهار عيوب الآخرين دون أن يمتلك أداة غير الأكاذيب لتبرير أفعاله الإجرامية.

اليوم، وبعد مضي خمسة وسبعين عاما على وجود إسرائيل، لا زال هذا الكيان يشكل استثناءا من أشكال الدول ونظم الحكم، فهو لا يزال بلا حدود معلنة معترف بها من محيطها، وبلا دستور مكتوب، ولا يزال “إعلان الاستقلال” هو مصدره الوحيد للتشريع والأساس لكل القوانين والأنظمة، وهو المصدر القضائي الأساسي الذي يحدد واجبات الدولة في الدفاع عن حقوق الفرد الأساسية، ولكنه لا يشير مثلاً إلى الوضع الحقوقي والقانوني للأقلية العربية داخل إسرائيل، وهي التي ما زالت تعاني الحرمان واللامساواة والتمييز، على الرغم من كونها تخضع لسلطة القانون والدولة، التي تفضل أن تبقى بلا حدود وبلا دستور، لذلك فقد سنت قانون أساس الكنيست عام 1958م ثم توالت القوانين التي تتعلق بأرض إسرائيل ورئاسة الدولة، والحكومة، والاقتصاد والحريات والجيش ويهودية الدولة وغيرها من الموضوعات ذات الطبيعة الدستورية بالأساس، ولكن دون أن تُصدر وثيقة دستورية ستقيدها فى مواجهة الأسرة الدولية.

نتنياهو الذي يترأس أكثر الحكومات قومية وتشددا دينيا منذ تأسيس الدولة، يمارس تدخلا سافرا فى شئون القضاء، لا يمكننا حتى وصفه كانقلاب على الدستور لعدم وجود الدستور أصلا، ولكننا بالتأكيد نستطيع وصفه بالتطبيق غير الديمقراطي في دولة تدعي الديمقراطية، خرج المتظاهرون فيها للإعراب عن مطالبهم بحماية الديمقراطية داخل إسرائيل، لكنهم بذات الوقت لا يتحدثون بشأن حرمان الفلسطينيين من الحريات في الضفة الغربية، فلا يزال الشعب الفلسطيني يعاني من استثنائه بالكامل من الديمقراطية الإسرائيلية يمينها ويسارها، فلا مساواة بين اليهود والعرب، ولا تكافؤ فرص، ولا زالت جرافات الجيش الإسرائيلي تهدم البيوت الفلسطينية في القدس وتطرد عائلات بأكملها، وذلك بقرار من القضاء الذي يتظاهر الإسرائيليون من أجل المحافظة عليه. هذا بالإضافة لعدم الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، بينما تمنح اسرائيل هذا الحق ليهود مُستجلَبين من الخارج عبر موجات من الاستيطان، دون صلة بيهود الشرق الأوسط الأصليين، مكرسة بذلك صورة النمط الاستعماري “الاستيطاني”، ولكنها حولت هذه الصورة إلى حركة قانونية تحظى بتشريع برلماني من الكنيست يعتبر الاستيطان قيمة وطنية.

في هذا السياق نرى أن إسرائيل والديمقراطية في حالة تناقض مفاهيمي، متعارض مع كل ما هو متعارف عليه عالميا حول طبيعة وفلسفة النظم الديمقراطية، وبناءا عليه قد يكون هذا المدخل الأول لبناء خطاب يستند على الحقائق المنطقية التي يفهمها الغرب لتحطيم صورة إسرائيل “كواحة للديمقراطية في صحراء الاستبداد العربي” ويقدم الصورة الحقيقية لهذا الكيان المستبد البعيد كل البعد عن أهداف الديمقراطية والخارج على القوانين والأعراف والأخلاقيات المتفق عليها عالميا.