الرئيسية / كتاب الموقع / تمثال الحرية وانتفاء الدلالة

تمثال الحرية وانتفاء الدلالة

محمد العامري

يشكل تمثال الحرية العلامة البارزة في مدينة نيويورك الامريكية والذي عبر عن حرية الإنسان وكان اسمه “تمثال الحرية بتنور الدنيا” والشهير بتمثال الحرية، التمثال الذي قدمه الشعب الفرنسي كهدية للولايات المتحدة الامريكية سنة 1886.

التمثال الذي يتسيّد جزيرة ليبرتي ايلاند “جزيرة الحرية” في مدخل ميناء مدينة نيو يورك، فهو الذي يرحب بالمهاجرين الجدد إلى أمريكا، وهو اول معلم يواجه الزائرين وفي يده شعلة الحرية وعلى رأسه شمس تشي بسطوع العدالة وقيمة الانسان، فهو الصورة البصرية ذات القيمة التي تعبر عن الانتصار لقيمة الانسان وحريته ووجوده، فالفيتو الأمريكي الأخير الذي خالف كل الدول الأعضاء في مجلس الأمن ينفي فكرة تبني الحرية في السياسة الأمريكية وهذا الفيتو الذي أساء لأمريكا كدولة تطرح في خطابها السياسي والإنساني مفاهيم الحرية، فبتنا اما حرية زائفة لا تمثل دلالة التمثال نفسه، وفي هذا السياق وجدت ان القوانين الدولية التي تتبناها المؤسسات الكبرى قد وجدت للعرب فقط، وخير مثال ما حدث في العراق وفلسطين وليبيا وغيرها من الدول العربية حيث نرى إلى القرارات السريعة وتطبيقاتها العملية والامر الذي يخص الكيان الإسرائيلي خارج تلك الحسابات رغم وضوح أفعال الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني تجاه أصحاب الأرض.

فقد تعدد مفاهيم الحرية في العالم المعاصر ويبدو لي ان كل منطقة لها قميص خاص بها يسمى حرية يختلف عن منطقة أخرى، كما لو ان مفاهيم الحرية في الشرق الأوسط قد فصّلت بمقاس ضيق جدا حتى تمزق قميصها وأصبحت غير متاحة، فمن يقاوم لتحرير أوطانه إرهابي، ومن ينتصر للمظلومين كذلك ارهابي، حرية سوداء لا تمتلك من صفات الحرية سوى اسمها، فقد غرروا بنا السفسطائيون حين اعتبروا الحرية حرية عقيدة وسياسة وفنون وأخلاق، إلى جانب المفاهيم التربوية بما يختص بالحرية ومدلولاتها، يبدو أننا نشتبك في منظومات معقدة حول مفاهيم الحرية والانسان وبرزت مفردات لا تدل عليها أبدا وأصبحت مقبولة في الميديا بشتى أشكالها.

فشعوب الشرق الأوسط اشتبه عليهم الأمر وما زالوا يمكثون في معاني الحرية الحقيقية حيث تجري القرارات الدولية على خلاف توهماتهم، فنحن نعيش وهما لذيذا عبر اللجوء إلى مؤسسات نُعتت بالدفاع عن المظلومين وهذا يحتاج على مراجعات في المفاهيم التربوية وأدبيات السياسة والأخلاق، وما ذهبوا إليه الابيقوريون محض هراء في العالم المعاصر، فحين حاول الأبيقوريّون ومنذ القدم السعيّ الجادّ في محاربة المخاوف، والأوهام التي تُسيطر على عقل الشخص وتقف عثرة أمام حصولِه على حريته ومن ثم شعوره بالسعادة، على عكس ما نلمسه الآن من تكدسات الخوف وعدم الطمأنينة، فقد انتهت آجال العيش بهدوء والحرية لدى شعوب الشرق الأوسط، ويرى “إيمانويل كانت” بأنّه لا يوجد أحدٌ يُلزم الإنسان بالتعامل أو التفكير بالطريقة التي يُريدها، ويرى أن كلَّ شخص يستطيع البحث عن سعادته وفرحه بالطريقة التي يراها مناسبة له”.

لا ينفصل وجود الإنسان عن حريته الشخصية والتعبير عن تطلعاته في الفكر والسياسة والابداع دون الحاق الضرر بالآخرين، ومن شأن الحرية أن تنمّي شخصية الفرد، وتعزز مهاراته وإمكانياته الإبداعية، وتطوير علاقاته مع الآخرين، فما نشهده اليوم هو انقلاب كوبرنيكي لتلك المفاهيم التي درسناها حيث يصبح الفرد الحر عبء على مؤسسات المجتمع بكل مركباته وصولا على حرية الشعوب التي تطالب وتمارس حقها في حرية التحرر والمقاومة ضد المحتل، وتمثال الحرية في نيويورك هو بمثابة علامة بصرية من المفترض أن تعبر عن الدولة التي تتبنى تلك العلامة، فبيكاسو في عمله العظيم الجيرنيكا كان ناقدا ورافضا للحرب، أعتقد أن السياسة الامريكية اليوم المتحيزة للمشروع الاحتلالي للكيان الصهيوني ينفي صورة ذلك التمثال الذي أطفأت شعلته ولم تعد قادرة على التوهج مرة أخرى ضمن هذه الظروف التي تعكس انتفاء قيمة الانسان العربي والفلسطيني، رغم كل الأمواج البشرية المتضامنة والمناصرة له، كما لو أننا أمام سياسات بكماء ليس لها عيون ولا آذان.