الرئيسية / كتاب الموقع / معركة الوعي والوجود

معركة الوعي والوجود

د. مصون شقير
إن صورة المقاوم الفلسطيني الذي تسلّق الجدار العازل بسلاحه، ونزل بمظليّته الى مستوطنات اسرائيلية تقع في غلاف غزة، وقتل ضباطاً اسرائيليين في ثكناتهم وأسر بعضهم الآخر، هي صورة ملحمية تشكلت في الوعي العربي، وكسرت معها بكل ما تحمله من تفاصيل صورة العدو الاسرائيلي الذي لا يقهر، لكنها بالمقابل مثلّت كابوساً مخيفاً في كل من الذهن الاسرائيلي والغربي، وبالتالي كان لا بد لهذا العدو المحتل وحلفائه من أن ينقضّوا على هذه الصورة الرمزية للنضال الفلسطيني، وذلك من خلال وصفه ابتداءً بأنه عمل إرهابي، ثم تجييش كل الوسائل العسكرية من أجل القضاء على هكذا مشهد في الوعي العربي، وإبادة أية فرصة لدى الأمة العربية لبناء آمال على هذه اللحظة التاريخية الفارقة، ودونما إهمال بالطبع لكل الخطط الاستراتيجية الموضوعة منهم سلفاً للقضاء على حماس كحركة مقاومة وتهجير سكان القطاع واستكمال خطة الترانسفير لسكان الضفة الغربية، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية.

وبغض النظر عما ستتمخض عنه هذه المعركة من نتائج، فإن هذه المواجهة الباسلة لحركة حماس ولشعب غزة مع هذا العدو الهمجي الشرس وحلفائه – والتي تُركوا فيها وحيدين – ساهمت في الكشف وبشكل سافر عن المزيد من زيف وقبح ووحشية كل من المنظومة الأخلاقية والحضارية لهذا الغرب الإمبريالي، ونحن إذ ندرك مسبقاً بأنه لم يتوقف ومنذ تاريخ زرعه للاستعمار في بلادنا عن محاولة تزييف وعينا وتهديد وجودنا ومصادرة سيادتنا وبأداءٍ كريه يتسّم بالكذب والاستعلاء والإلغاء، فإنه أيضاً لم تردعه الاتفاقيات والمعاهدات التي وضعها والتي أصبحت قوانين دولية ملزمة عن تزويد العدو الغاشم بأحدث وأقصى آلات القتل بما فيه ذلك استقدام غواصة نووية وبوارج حربية الى المنطقة – وهي التي لم يستخدمها حتى في مواجهته مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا- ، كي يستخدمها في حرب إبادة المدنيين في غزة.

وإذا كانت هذه المعركة قد كشفت كذلك عن خوار معظم الأنظمة العربية وتآكل مروءتها قبل إرادتها، لكنها أظهرت أن للشعوب العربية خيارات أخرى عبّرت عنها في التظاهرات التي ملأت الساحات وهي النضال ضد الكيان الغاصب، إلا أن ذلك يستدعي فيما يستدعي خوض معركة الوعي والوجود بمواجهة المحتل، والتي تتطلب أدواتٍ قانونية – سنعرض اليها في مقال آخر – وكذلك أدوات فكرية تتمثل ابتداءً في جهود أمينة مع الذات لترميم هويتنا العربية بثقافتها الإسلامية، وتقديم تصور هوياتي تلتف حوله الأجيال، ومراجعة مناهجنا التعليمية لإعادة بناء ذلك النشئ الذي يفهم قضيته الوطنية، بالإضافة إلى الانخراط في إنتاجٍ ثقافي وفني ملتزم يقدم رؤيتنا لحقيقة صراعنا مع المستعمر.

وكذلك تطوير سياسات اقتصادية بديلة تتبنى مفهوم الاقتصاد الاجتماعي التضامني الذي يهدف إلى تلبية احتياجات الناس وليس تحقيق الحد الأقصى من الأرباح، ويقودنا بالنتيجة إلى التخلص من سطوة صندوق النقد الدولي، ويحررّنا من كل سيناريوهات الحصول على مواردنا الحيوية من الغاصب المحتل، ويخدم بالنتيجة استقلال قرارنا السياسي.

كما تتطلب هذه المعركة جهوداً استثنائية مع الآخر بحيث نقدم سرديتنا الخاصة لصراعنا مع الكيان الغاصب، من خلال التواصل مع مراكز الأبحاث المستنيرة في الغرب، والاشتباك الذكي مع وسائل الإعلام الغربية ودونما إهمال لوسائل التواصل الاجتماعي، وبناء الجسور مع الجامعات الغربية لشرح قضيتنا الوطنية من خلال نوادي خريجي هذه الجامعات في بلداننا، والتشبيك المؤسسي مع جميع من أبدى فهماً لقضيتنا في الخارج، وتوفير خطاب إعلامي متماسك بأكثر من لغة يقدم حضارتنا بأبعادها الثرية وقضيتنا النضالية، ودون التخلي عن ممارسة الحق في مقاطعة الشركات التي تدعم الكيان المحتل.

إنها معركة طويلة ولربما شاقة، لكنها تأتي كوفاء لقضيتنا العادلة ولجميع أرواح الشهداء اللذين سالت دماؤهم على أرض فلسطين، وأداء لأمانة في أعناقنا بحق الأجيال القادمة، فمن ساهم فيها نال شرف المحاولة، ومن استنكف عنها سيحاكمه التاريخ لا محالة.